الحمد لله.
أولا :
روى البخاري (735) ، ومسلم (390) عن ابن عمر : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ )
وروى البخاري (739) عَنْ نَافِعٍ : " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
" فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ ، وَقَال السُّيُوطِيُّ : الرَّفْعُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ " انتهى من " الموسوعة الفقهية " (27 /95) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" مواضع رَفْع اليدين أربعة :
عند تكبيرة الإحرام ، وعند الرُّكوعِ ، وعند الرَّفْعِ منه ، وإذا قام من التشهُّدِ الأول " .
انتهى من " الشرح الممتع " (3 /214) .
راجع جواب السؤال رقم : (3267) .
تنبيه : ما نسب في "الموسوعة الفقهية" ، إلى الشافعية من استحباب رفع اليدين عن القيام من التشهد للركعة الثالثة : غير صحيح ، فالمشهور من المذهب ، وعليه أكثر الأصحاب : أنه لا يرفع اليدين إلا في تكبيرة الإحرام ، والركوع ، والرفع منه .
ينظر : " المجموع شرح المهذب " للنووي (3/425) .
ثانيا :
روى البخاري (737) ، ومسلم (391) - واللفظ له - عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ " .
ورواه النسائي (1085) وزاد : " وَإِذَا سَجَدَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ، حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ " وصححه الألباني في "صحيح النسائي" .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي ... " ثم ذكر هذا الحديث .
ورواه أحمد (20014) ولفظه : عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِيَالَ فُرُوعِ أُذُنَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ " .
وروى ابن أبي شيبة (2449) عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ " وصححه الألباني في " الإرواء " (2/68) .
فاختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عمر الذي ينفي فيه الرفع في السجود ، وبين حديث مالك بن الحويرث ، وحديث أنس ، وما روي في معناهما مما يفيد الرفع في السجود :
- فذهب بعضهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع أحيانا ، ولكن كان أكثر حاله على عدم الرفع .
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله بعض الروايات التي فيها الرفع في السجود ثم قال : " ويجاب عن هذه الروايات كلها ، على تقدير أن يكون ذكر الرفع فيها محفوظا، ولم يكن قد اشتبه بذكر التكبير بالرفع = بأن مالك بن الحويرث ، ووائل بن حجر : لم يكونا من أهل المدينة ، وإنما كانا قد قدما إليها مرة أو مرتين ، فلعلهما رأيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذَلِكَ مرة ، وقد عارض ذَلِكَ نفي ابن عمر، مع ملازمته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشدة حرصه على حفظ أفعاله واقتدائه به فيها ، فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين ، وقد روي في الرفع عندَ السجود وغيره أحاديث معلولة " .انتهى من "فتح الباري" لابن رجب (6/ 354)
وقال السندي رحمه الله :
" الظَّاهِر أَنَّهُ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ أَحْيَانًا وَيَتْرُك أَحْيَانًا ، لَكِنَّ غَالِب الْعُلَمَاء عَلَى تَرْك الرَّفْع وَقْت السُّجُود ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِذَلِكَ بِنَاء عَلَى أَنَّ الْأَصْل هُوَ الْعَدَم ، فَحِين تَعَارَضَتْ رِوَايَتَا الْفِعْل وَالتَّرْك : أَخَذُوا بِالْأَصْلِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " انتهى .
- وذهب الأكثرون إلى ترجيح عدم الرفع ؛ لأنه المحفوظ رواية ودراية ، وحكموا على روايات الرفع بالشذوذ ، وأن الراوي أخطأ فذكر الرفع بدل التكبير ؛ لأن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع ، كما في البخاري (785) ، ومسلم (392) .
وروى الترمذي (253) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ " .
قال الترمذي عقبه : " حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ " انتهى .
وفي "العلل" ، للإمام الدارقطني (1763) : أنه َسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ، وَيَقُولُ: لَوْ قُطِعَتْ يَدِي لَرَفَعْتُ ذِرَاعِي ، وَلَوْ قُطِعَتْ ذِرَاعِي لَرَفَعْتُ عَضُدِي.
فَقَالَ: هَذَا رَوَاهُ رَفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ الْغَسَّانِيُّ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سَلَمَةَ كَذَلِكَ.
وَخَالَفَهُ مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرُهُ ، فَرَوَوْهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ : " رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكَبِّرُ لَمْ يَذْكُرِ الرَّفْعَ وَفِي آخِرِهِ : إِنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛
فَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عن أبي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خفض ورفع ، ويقول: " أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وَلَمْ يُتَابِعْ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ عَلَى ذَلِكَ.
وَغَيْرُهُ يَرْوِيهِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ " .انتهى من "العلل" (9/283) .
وفي " تذكرة الحفاظ " لابن القيسراني (89، رقم 192) :
" 192 – " إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ. . . ) الْحَدِيثَ.
رَوَاهُ رَفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ الْغَسَّانِيُّ ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ .
وَهَذَا خَبَرٌ إِسْنَادُهُ مَقْلُوبٌ وَحَدِيثُهُ مُنْكَرٌ ، مَا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ قَطُّ.
وَإِخْبَارُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ يُصَرِّحُ بِضِدِّهِ ؛ أِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَرَفْدَةُ هَذَا ضَعِيفٌ، تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ " انتهى .
وينظر: "منهج الإمام أحمد في إعلال الحديث" ، بشير علي عمر (1/129-131) .
سئل علماء اللجنة :
ورد بعض الأحاديث برفع اليدين بين السجدتين وفي بعضها نهي عن الرفع بينهما، فما وجه الجمع بينهما ؟
فأجابوا : " سلك بعض العلماء مسلك الترجيح في ذلك ؛ فرجحوا ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من عدم رفع اليدين عند السجود والرفع منه، واعتبروا رواية الرفع فيهما شاذة لمخالفتها لرواية الأوثق .
وسلك آخرون مسلك الجمع بين الروايات لكونه ممكنا فلا يعدل عنه إلى الترجيح ، لاقتضاء الجمع العمل بكل ما ثبت ، واقتضاء الترجيح رد بعض ما ثبت وهو خلاف الأصل . وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في السجود والرفع منه أحيانا ، وتركه أحيانا فروى كل ما شاهد .
والعمل بالأول أولى للقاعدة التي ذكرت معه " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (6 /345) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وإذا كان ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو الحريص على تتبع فعل الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد تتبعه فعلا ، فرآه يرفع يديه في التكبير، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول ، وقال: "لا يفعل ذلك في السجود". فهذا أصح من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يرفع يديه كلما خفض وكلما رفع"، ولا يقال: إن هذا من باب المثبت والنافي، وأن من أثبت الرفع فهو مقدم على النافي في حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ؛ لأن حديث ابن عمر صريح في أن نفيه ليس لعدم علمه بالرفع ، بل لعلمه بعدم الرفع ، فقد تأكد ابن عمر من عدم الرفع ، وجزم بأنه لم يفعله في السجود ، مع أنه جزم بأنه فعله في الركوع ، والرفع منه ، وعند تكبيرة الإحرام ، والقيام من التشهد الأول.
فليست هذه المسألة من باب المثبت والنافي التي يقدم فيها المثبت لاحتمال أن النافي كان جاهلا بالأمر، لأن النافي هنا كان نفيه عن علم وتتبع وتقسيم ، فكان نفيه نفي علم ، لا احتمال للجهل فيه فتأمل هذا فإنه مهم مفيد " انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (13 /45-46) .
والراجح من القولين - والله أعلم - هو القول بعدم الرفع ، وعليه أكثر أهل العلم ، لكن من ترجح عنده ثبوت رواية الرفع ، وأخذ بالقول الأول ، ورفع أحيانا : فلا ينكر عليه ؛ فهي مسألة اجتهادية .
والله تعالى أعلم .
تعليق