الحمد لله.
روى البخاري (6408) ، ومسلم (2689) - واللفظ له – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا ، يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ ، قَالَ : فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ ، مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ ، يُسَبِّحُونَكَ ، وَيُكَبِّرُونَكَ ، وَيُهَلِّلُونَكَ ، وَيَحْمَدُونَكَ ، وَيَسْأَلُونَكَ ، قَالَ : وَمَاذَا يَسْأَلُونِي ؟ ، قَالُوا : يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ ، قَالَ : وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا : لَا ، أَيْ رَبِّ ، قَالَ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي ؟ ، قَالُوا : وَيَسْتَجِيرُونَكَ ، قَالَ : وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي ؟ قَالُوا : مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ ، قَالَ : وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ ، قَالُوا : وَيَسْتَغْفِرُونَكَ ، قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا ، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا ،. قَالَ : فَيَقُولُونَ : رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ ، فَيَقُولُ : وَلَهُ غَفَرْتُ ، هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ) .
وفي رواية البخاري : ( فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ؟ ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً ، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا )
وروى مسلم (1348) عن عَائِشَة أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ )
وفي رواية : ( هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُوا شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي، وَلَمْ يَرَوْنِي، فَكَيْفَ لَوْ رَأُونِي ؟ ) .
رواه عبد الرزاق (8830) ، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1360) .
ومن حكم سؤال الله تعالى ملائكته عن أحوال عباده ، وما ورد بمعنى ذلك في الأحاديث ، والله أعلم :
- أنه سبحانه يريد أن يبين تفضله عليهم برحمته ومغفرته ، وقضائه حاجاتهم ، جزاء عملهم الصالح ، وحسن رغبتهم في فضل ربهم ؛ حتى يتعرف الخلق على الله تعالى بأسمائه وصفاته ، وما يتفضل به على عباده الصالحين .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح حديث فضل الوقوف بعرفة المتقدم :
" يقول سبحانه وتعالى: "ما أراد هؤلاء؟ " يعني : أي شيء أرادوا من مجيئهم إلى هذا المكان ؟ يريد بذلك أن يتفضل عليهم بالرحمة والمغفرة ، وإعطائهم سؤلهم " .
انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (23/ 26) .
- أن يبين فضل هؤلاء الطائعين الصالحين ؛ حيث رجوه وخافوه بالغيب ، ولم يروه.
- أن يبين تعالى لملائكته سبب مباهاته بهم وكرامته لهم ؛ حيث يقررهم بأن عباده جاءوه شعثا غبرا راجين راغبين ، ويتبين ذلك أيضا بقوله : ( ... فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ ) إلى آخر الحديث ؛ فيقر لهم الملائكة بالطاعة والاستقامة بالغيب ، بخلاف حال إبليس الذي استكبر وأبى .
وأسلوب التقرير بالسؤال والجواب يقع أيضا مع الكافر ، فيقع مع المؤمن إظهارا لشرفه ، وإظهارا لنعمة الله عليه وفضله ، ويقع مع الكافر تقريعا وإذلالا له ، وإقامة للحجة عليه ؛ كما في حديث أبي هريرة في محاسبة الكافر يوم القيامة : ( ... فَيَلْقَى الْعَبْدَ، فَيَقُولُ : أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ ، وَأُسَوِّدْكَ ، وَأُزَوِّجْكَ ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ ؟ ، فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ) رواه مسلم (2968) .
- فيه إشارة إلى جواب الملائكة عن قولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" فِيهِ أَنَّ السُّؤَال قَدْ يَصْدُر مِنْ السَّائِل ، وَهُوَ أَعْلَم بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْ الْمَسْئُول ؛ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَة بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ ، وَالتَّنْوِيَة بِقَدْرِهِ ، وَالْإِعْلَان بِشَرَفِ مَنْزِلَته ، وَقِيلَ إِنَّ فِي خُصُوص سُؤَال اللَّه الْمَلَائِكَة عَنْ أَهْل الذِّكْر : الْإِشَارَة إِلَى قَوْلهمْ ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك ) ؛ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ : اُنْظُرُوا إِلَى مَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنْ التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس ، مَعَ مَا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّهَوَات ، وَوَسَاوِس الشَّيْطَان , وَكَيْف عَالَجُوا ذَلِكَ ، وَضَاهَوْكُمْ فِي التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس .
وَقِيلَ إِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الذِّكْر الْحَاصِل مِنْ بَنِي آدَم أَعْلَى وَأَشْرَف مِنْ الذِّكْر الْحَاصِل مِنْ الْمَلَائِكَة لِحُصُولِ ذِكْر الْآدَمِيِّينَ مَعَ كَثْرَة الشَّوَاغِل وَوُجُود الصَّوَارِف وَصُدُوره فِي عَالَم الْغَيْب , بِخِلَافِ الْمَلَائِكَة فِي ذَلِكَ كُلّه ".
انتهى "فتح الباري" (11/213) .
وينظر : "عمدة القاري" ، للعيني (23/ 28) ، " دليل الفالحين" (7/ 247) .
والله أعلم .
تعليق