الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

شديد الحزن على والده لتعامله بالربا

السؤال


اشترى والدي بيتاً منذ سبع سنوات - يعيش فيه الآن - بقرض ربوي ما زال يدفع أقساطه حتى اليوم ، ثم وبحماقة غير مبررة ، اشترى بيتاً أخر بنفس الطريقة منذ ثلاث سنوات ، واقترض آلاف الجنيهات من أختي الكبيرة التي أرهقها بمساعدته في سداد هذه القروض ، ولم أعرف هذه التفاصيل إلا منذ ستة أشهر فقط ، ومن حينها وأنا أتوب إلى الله ، وأساعد أختي في سداد القروض ، الأمر الذي أثقل كاهلنا جميعاً ، وقد فكرنا في حل هذه المعضلة عن طريق بيع البيت الأول ، وبيت آخر كبير في باكستان ، اشتراه والدي بحرّ ماله ، فإذا ما وافق أبي على ذلك سُددت القروض وسلمنا من هذه الغُصة ، لكن للأسف، على ما يبدوا أنه لا يكترث لشيء من هذا، ويسوّف من حين لآخر، وفي كل مرة أفاتحه بالموضوع يغلظ القول ويسيء إليّ . - فهل عليّ ملامة في شيء من هذا ؟ - قولوا لي ماذا أفعل ، وكيف أقنعه بالتخلص من الربا ؟ لقد تحولت حياتي إلى عذاب مستمر في ظل هذا الوضع ، وأفكر في الانتحار .

الجواب

الحمد لله.


الربا من الذنوب العظيمة التي يجب ويتحتم على المسلم اجتنابها .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) البقرة /278- 279.
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا ، وَمُوكِلَهُ ، وَكَاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ " رواه مسلم (1598) .
والمقترض بالربا لا يأثم إلا فاعله ولا ذنب على عائلته إلا إذا رضيت بذلك أو ساعدته ، أما إذا كانت منكرة لفعله ناصحة له باجتنابه فلا إثم عليها لأنها لم تفعل محرما .
قال الله تعالى :
( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) الأنعام /164 .
وقال تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) فاطر/18 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" قوله: ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد ، ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ) أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب ، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها ( لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فإنه لا يحمل عن قريب " .
انتهى من " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " ( ص 687 ) .
وحزنك على ذنب والدك شيء محمود ويدل على حياة قلبك وخوفه من الله تعالى ، لكن هذا الحزن إذا وصل إلى حدّ التفكير في الانتحار فإنه يصبح مذموما ؛ لأنه أصبح غير مفيد بل مضر ، فلهذا يجب عليك مجاهدته والاشتغال بالصالح من الأعمال .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وأما ‏( الحزن‏ ) فلم يأمر اللّه به ولا رسوله ، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين ، كقوله تعالى‏:‏ ‏( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )‏ آل عمران‏ ( 139 )‏‏، وقوله‏:‏ ‏( وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ‏النحل‏ ‏(127) ‏، وقوله‏ :‏ ‏( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) ‏التوبة‏‏ ‏(40) ، وقوله‏:‏ ‏( وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ) ‏يونس‏ ( 65 ) ، وقوله ( لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ‏الحديد‏ ‏( 23 ) .‏ وأمثال ذلك كثير‏.‏
وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه ، وما لا فائدة فيه لا يأمر اللّه به ...‏
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن ، كالحزين على مصيبة في دينه ، وعلى مصائب المسلمين عمومًا‏ فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر ، وتوابع ذلك ...
وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر اللّه ورسوله به كان مذمومًا عليه من تلك الجهة ، وإن كان محمودًا من جهة أخرى‏ " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (10/16-17).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" النبى صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه ، وذلك لأن الحزن يضعف القلب ، ويوهن العزم ، ويضر الإرادة ، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن ، قال تعالى: ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) .
فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره ... ولكن يحمد في الحزن سببه ومصدره ولازمه ، لا ذاته ، فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره خدمة ربه وعبوديته ، وأما أن يحزن على تورّطه في مخالفته ومعصيه وضياع أيامه وأوقاته ، وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه وعلى حياته ، حيث شعر قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه ، ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم ، فما لجرح بميت إيلام ، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى ، ولكن الحزن لا يجدى عليه ، فإنه يضعفه ، كما تقدم ، بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ، ويجد ، ويشمر ، ويبذل جهده " .
انتهى من " طريق الهجرتين " ( 2 / 607 - 608 ) .
ثانيا :
ما أنت فيه من الحزن الذي أوصلك للتفكير في الانتحار ، هو عمل غير حكيم ، فليس للعاقل أن يرتكب ذنبا عظيما حزنا على ذنب غيره ، فالانتحار ليس بالذنب الهيّن .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ‏(‏ مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهْوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ) .‏ رواه البخاري ( 5778 ) ، ومسلم ( 109 ) .
بل عليك أخي الكريم أن تعلم أن ما يصيبك من الهم والحزن سواء بسبب ديون والدك أو ذنبه إذا صبرت واحتسبت أجره عند الله تعالى وبادرت لإصلاح ما يمكن إصلاحه فقد تكون من المغفور لهم .
عن أبي سعيد الخدري ،وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ - حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا - إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ) رواه البخاري (5642) ، ومسلم ( 2573 ) .
وقد تفوز بأن تلقى الله تعالى وليس عليك خطيئة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) رواه الترمذي (2399) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة "( 2280 ) .
وعليك بكثرة دعاء الله تعالى والإخلاص فيه خاصة في أوقات الإجابة كثلث الليل الأخير وعند السجود في الصلاة ، وعليك بطرد اليأس من نفسك بل كن متفائلا وموقنا أن الله قادر على كل شيء ورحيم بخلقه فلا تدري متى يكون الفرج .
قال الله تعالى مخبرا عن نصيحة يعقوب عليه السلام لأولاده :
( وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) يوسف/ 87.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" ( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ) فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه ، والإياس : يوجب له التثاقل والتباطؤ ، وأولى ما رجا العباد ، فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه ، ( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته ، ورحمته بعيدة منهم ، فلا تتشبهوا بالكافرين ، ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " ( ص 404 ) .

فالحاصل ؛ أخي الكريم أنت غير ملام ما دمت منكرا لفعل والدك ناصحا له ، بل قد يثيبك الله على ما تقوم به من نصح ، لكن عليك أن تجتهد في الأعمال الصالحة ولا تقعد أسير حزنك ، فالحزن مدخل للشيطان لتيأس من رحمة الله تعالى ولتقعد عن فعل الخيرات والمسارعة فيها ، وعليك بالاستمرار في نصح والدك والاجتهاد في الدعاء له .
نسأل الله تعالى أن يزيل همك ويفرج كربتك ويهدي والدك .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب