الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

علم أصول الحديث قواعد عقلية وأصول شرعية

239540

تاريخ النشر : 30-08-2016

المشاهدات : 51290

السؤال

هل لقواعد علم الحديث أساس في الكتاب والسنة ، أي: هل هناك مثلاً دليل يشير إلى طبيعة استخدام الإسناد ، أو كيفية التفريق بين الصحيح والضعيف ؟ أو هل هناك ما يشير إلى مسألة الجرح والتعديل ؟ أم أن المحدثين هم من وضع هذا العلم في اجتهاد منهم لحفظ السنة، حتى ولو لم يكن لهم دليل من القرآن أو السنة ؟

الجواب

الحمد لله.

علم أصول الحديث هو في الأصل والأساس مبني على قواعد عقلية ، ومبادئ منهجية ، وأصول تجريبية ؛ توصَّل إليها المحدثون بحكم الخبرة المنهجية المتراكمة في نقل الأخبار وتحري صدقها وثبوتها ، واهتدوا إلى أسس هذا العلم بالممارسة الطويلة، ومعاناة السماع والأداء والنقد والتعليل ، والبناء شيئا فشيئا لقواعد العلم وضوابطه ، كما يقول الخطيب البغدادي: "تمييز الحديث علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له ، والاعتناء به" كما في "الجامع" (2/ 255) .
ولكن هذه القواعد في الوقت نفسه – في فلسفتها العامة وليس في ضوابطها الجزئية - أصول شرعية مقررة في نصوص الكتاب والسنة، فقد وردت الأدلة الشرعية الإجمالية التي تخط لعلماء الحديث المبادئ الأساسية لعلوم التاريخ، وأما التفاصيل فهي محالة إلى المنهج التجريبي ، السابق ذكره .
فمن تلك المبادئ الأساسية الشرعية العامة:
1. تغليظ تحريم الكذب في الحديث .
كما قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ) رواه البخاري (1295) ، ومسلم (4) في المقدمة.
2. عدم قبول خبر الفاسق.
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) الحجرات/6 .
3. اشتراط عدالة الراوي قياسا على عدالة الشاهد .
قال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّه) الطلاق/ 2.
4. التثبت والتحري الدائمان.
قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء/ 36.
5. الحذر من مناكير الأخبار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (7) .
6. التوقي عن رواية المكذوب .
كما قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ) رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
7. الضبط والحفظ معيار الثقة :
قال عليه الصلاة والسلام: ( نَضَّرَ الله امرَأً سَمِعَ منَّا حديثاً فحفِظَه حتىِ يُبَلَّغَهُ ، فَرُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ) رواه أبوداود في "السنن" (3660) ، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (230) .
8. الحذر من التهمة بكثرة الغرائب وعدم انتقاء الحديث.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) رواه مسلم في "مقدمة صحيحه".
9. طلب الدليل والبرهان.
قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) البقرة/ 111.
10. التفتيش عن العلم واليقين، بعيدا عن الظن والوهم.
قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) النجم/ 28.
وقد استدل ببعض هذه الأدلة الإمام مسلم رحمه الله في "مقدمة صحيحه" (ص7) فقال:
"اعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين : ألا يروي منها إلا ما عُرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع.
والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه، قول الله جل ذكره: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات: 6]، وقال جل ثناؤه: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282]، وقال عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2]، فدل بما ذكرنا من هذه الآي ، أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر - وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه - فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم ، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم، ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار ، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق" انتهى.
يقول الدكتور همام سعيد:
"وبذلك يتبين لنا أن منهج المحدثين هو منهج قرآني مستمد من القرآن والسنة، وأنه منهج تاريخي نقدي ، أي أنه منهج لا يسلِّم بالنص دون محاكمة ونقد، ولا يكفي أن يصدر النص عن عالم أو شخص له احترامه حتى يقبل ، بل لا بد أن تثبت نسبة النص إلى قائله ، وأن ينظر فيه نظرة ثاقبة فاحصة لمعرفة اتفاقه مع الأسس الثابتة والمبادئ العامة.
ولقد غاب هذا المنهج التاريخي النقدي عن التوراة والإنجيل ، وغاب عن سائر التواريخ قبل الإسلام. ثم جاء الإسلام ليمنح العالم أجمع هذا المنهج المسؤول القائم على البحث والاستقصاء والتفكير السليم. وقد جعل "شارل جنيبير" منهج النقد التاريخي ، مقابلا للمنهج الإيماني النصراني الذي يأخذ الروايات عن السابقين دون مناقشة ومحاكمة.
لقد أغفل كثير من الباحثين هذه العلاقة المنهجية بين القرآن الكريم وعلوم الحديث، حتى تسرب إلى الأذهان أن منهجية المحدثين نوع من العبقرية الفذة، وأنها نشأت من الحاجة وحدها.
والحق الذي لا مرية فيه أن منهجية المحدثين منهجية قرآنية ، وأنها مظهر من مظاهر إعجاز هذا الدين، وكما حفظ الله كتابه الكريم من كل تبديل أو تغيير، فقد حفظ السنة بمجموعها، وصانها من الاندثار والنسيان" انتهى من "الفكر المنهجي عند المحدثين" (ص24) .
وما سبق كله – كما يبدو للقارئ الكريم – أسس منهجية عامة بناها القرآن الكريم، وبناها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه، لترسم لهم الأطر العامة لنظرية المعرفة التي يبحثون عنها، والتي سيؤسسون علوم العقل والنقل تبعا لها، فأثمرت هذه الأصول تحريا دقيقا جدا، وحسا نقديا عاليا ومنضبطا، سببه الخوف من مخالفة تلك الأصول والأوامر الإلهية، ولولا ذلك لخاض المسلمون في طرق الأوهام والتخرصات، ولرأينا الخرافات والأساطير والتناقضات هي اللغة الطاغية على علوم المسلمين، ولكن الوازع الديني في المباني العشرة السابقة كانت لها أعظم الأثر في منهج التحري والتدقيق الذي سلكه المحدثون.
أما التفاصيل الدقيقة في أصول الحديث، الذي هو "علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد"، كمثل الحديث عن ضبط الصدر وضبط الكتاب، ومنهج التعامل مع أحاديث المدلسين، وترجيح خبر الأوثق على الثقة، وترتيب طبقات الرواة عن شيخ معين، والمقارنة بين الروايات وجمع الطرق، والتأني في الأفراد، والاستئناس بالقرائن، والتقوية بالكثرة وتعدد الأوجه، وغيرها من قوانين القبول والرد، هي - كما ترون - نتاج عمل عقلي تفصيلي، يترجم تلك المبادئ العامة إلى قوانين عملية منهجية، يصل المحدثون من خلالها إلى حكمهم على الحديث صحة وضعفا.
يقول العلامة المعلمي رحمه الله:
"ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث.
فالمتثبتون إذا سمعوا خبرا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته. قال الإمام الشافعي في الرسالة (ص399): وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت أو أكثر دلالات بالصدق منه . وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية (ص429): باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث . وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثاً بيِّنَ البطلان إلا وجدت في سنده واحداً أو اثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة، والأئمة كثيراً ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به، فضلاً عن خبرين أو أكثر.
ويقولون للخبر الذين تمتنع صحته أو تبعد: منكر أو باطل . وتجد ذلك كثيراً في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات .
والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا ًحديثاً.
فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطا، نعم ليس كل من حكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتاً، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك.
هذا وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقة للعقل المعتد به في الدين، مستكملة شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضاً على المتكلمين، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جداً أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات" .
انتهى من "الأنوار الكاشفة" (ص: 6-7) .
ويقول الدكتور خلدون الأحدب:
"إن بناء (علم أصول الحديث) كان بناءً عقلياً. ولولا هذه الصفة، لما كان له أبداً هذا الأثر البالغ في بناء وتشكيل العقل المسلم.
وهذا البناء العقلي كان ابتداؤه من تلك الأصول العقلية المنهجية التي قررها القرآن الكريم والسنة المطهرة في شأن الراوي والمروي، والتي إليها يعود (علم أصول الحديث).
وتقرير حقيقة البناء العقلي لهذا العلم يتجلى في كون المحدثين قد رَاعَوْ العقل في قبول الحديث وتصحيحه في أربعة مواطن ، كما يقول العلامة الناقد عبدالرحمن المعلِّمي اليماني" .
انتهى من "أثر علم أصول الحديث في تشكيل العقل المسلم" (ص19) .
ويقول الدكتور عبد الله ضيف الله الرحيلي:
" الضوابط العلمية للتّثبت في الرواية عندنا نحن المسلمين -كما هي الحال في منهج المحدثين- ليستْ مستندة للإيمان بالغيب، بحيث يكون ضابطاً من ضوابط تثبيت الرواية أو تزييفها، بل هي ضوابط عقلية تستند إلى العقل، وإلى القضايا التاريخية الثابتة، ومقارنةِ الروايات وعَرْضها على بعضها أو على سواها مما رآه المحدثون ضابطاً أو دليلاً على صحة الرواية.
وهذه الضوابط بهذا الوصف تُعَدُّ عقليةً فطرية يشترك البشر -غالباً- في إدراكها وقبولها، بغض النظر عن أديانهم واتجاهاتهم؛ فالخبر بالسند المنقطع مثلاً تشترك العقول السليمة في الشك فيه أو عدم التسليم به من هذا الوجه، وذلك لعدم وجود الناقِل المتصل بمصْدر الخبر، وإذا لم يتوفر هذا الناقل فكيف يتصور العلم بالخبر؟!
إن العقول البشرية تُفَرِّق بين الخبر من جهة، وبين التوقع والظن من جهة أخرى. ومن هنا لا يَرِد التساؤل القائل أي منهج علميّ يستند إليه منهج المحدثين في التثبت من صحة الرواية؟ هل هو ذاك المنهج العلمانيّ المُنْطَلَق ، أم الإيماني المُنْطَلَق؟ ذلك أن عنصر الإيمان بالغيب في منهجنا لم يتدخل في مقاييس قبول الرواية وردها -من هذه الحيثية-، وإن كانت مقاييسنا لا تنافي الإيمان بالغيب بل تُثْبته، لكن هذا الجانب من منهج المحدثين متعلِّقٌ بجانب الرواية، وليس بالرأي والاعتقاد وعلْم الغيب" انتهى من "حوار حول منهج المحدثين في نقد الروايات سندا ومتنا" (ص12-13)
والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب