الحمد لله.
قال الله عز وجل :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ) الكهف/1-5 .
فقوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) من اليهود والنصارى ، والمشركين ، الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة ، فإنهم لم يقولوها عن علم ولا يقين، لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم ، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس .
( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه ، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟
ولهذا قال: (إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا) أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج ، والانتقال من شيء إلى أبطل منه ، فأخبر أولا أنه (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ) والقول على الله بلا علم ، لا شك في منعه وبطلانه ، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)
ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
انظر : "تفسير السعدي" (ص 469) .
فالمقصود بقوله : (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ) أنهم يتكلمون بكلام باطل لا علم لهم به ، ولا علم لآبائهم الذين سبقوهم إلى هذا القول الفاسد ، ثم جاء الأولاد فاتبعوا آباءهم عليه ، فهو شيء لا يعلمونه ولا يعلمه آباؤهم الذين أخذوه عنهم .
والمقصود بالآباء هنا : الآباء الذين يتكلمون بهذه المقولة الفاسدة الباطلة ، فهم يتكلمون بالظن وما تهوى الأنفس ، ويتابعهم أبناؤهم على ذلك ، فهو قول باطل قال به الأبناء عن غير علم ، متابعين فيه الآباء الجهلة الكذبة ، فما أسوأ أن يجهل العبد ، ويتابع غيره على الجهل .
قال الشوكاني رحمه الله :
" مَا لَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ أَصْلًا وَلا لِآبائِهِمْ عِلْمٌ، بَلْ كَانُوا فِي زَعْمِهِمْ هَذَا عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَقَلَّدَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ ؛ فَضَلُّوا جَمِيعًا " انتهى من "فتح القدير" (3/ 320).
وقد نص أهل العلم على أن المراد بالآباء هنا : الآباء الذين قالوا هذه المقولة الفاسدة ، فأخذها عنهم الأبناء :
فقال ابن عطية رحمه الله :
" قوله ( وَلا لِآبائِهِمْ ) يريد : الذين أخذ هؤلاء هذه المقالة عنهم " .
انتهى من"تفسير ابن عطية" (3/ 495) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" (وَلا لِآبَائِهِمْ) الذين قالوا مثل قولهم ، ليس لهم في ذلك علم ، ليسَ هناك إلاّ أوهام ظنوها حقائق ، وهي ليست علوماً " انتهى من " تفسير العثيمين" ، سورة الكهف (ص 13) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
" كَانُوا يَقُولُونَ (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) الزخرف/ 23 ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِآبَائِهِمْ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ ، فَلَيْسُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يُقَلِّدُوهُمْ " .
انتهى من " التحرير والتنوير "(15/ 251)
وأما الآباء الذين لا يقولون هذه المقولة الفاسدة ، وإنما يؤمنون بالله ، ويوحدونه : فهؤلاء غير مقصودين بهذه الآية .
فمن كان من الموحدين ، وكان له ابن قد ارتد عن الإسلام واعتنق النصرانية ، وصار يقول بأن المسيح ابن الله ، فهذا الأب الموحد لا يلام ولا يذم ، ولا ينفى عنه العلم بسبب ما فعله ابنه ، بل كل إنسان يذم أو يمدح بناء على ما فعله هو ، لا ما فعله غيره .
وقد روى أبو داود (4495) عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: " انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ لِأَبِي: ( ابْنُكَ هَذَا؟ ) قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: (حَقًّا؟) قَالَ: أَشْهَدُ بِهِ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْتِ شَبَهِي فِي أَبِي ، وَمِنْ حَلِفِ أَبِي عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ) ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) " وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
قال القاري رحمه الله :
"مرقاة المفاتيح" (6/ 2272)
" (لَا يَجْنِي عَلَيْكَ) أي : لَا تُؤَاخَذُ بِذَنْبِهِ ( وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ) أَيْ: لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِكَ " انتهى .
وقال العيني رحمه الله :
" فَأعْلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ، مثل مَا أعلم الله ، من أَن جِنَايَة كل امرىء عَلَيْهِ ، كَمَا أن عمله له لَا لغيره " انتهى من "عمدة القاري" (8/ 79) .
والله تعالى أعلم .
تعليق