الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

الله سبحانه وتعالى لا يأمر بالمنكر

السؤال

عندما حفظت سورة يوسف عليه السلام بقيت هذه الآية في عقلي ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) فأوحى الله إلى إخوة سيدنا يوسف عليه السلام أن يرموه في البئر وهم لا يشعرون حتى يصبح ملكا في النهاية ، فهذا الخطأ الذي ارتكبوه لم يكن خطأ بل هو إيحاء رباني ، فأصبحت عندما ارتكب أية معصية أو خطأ أقول يمكن أن يكون هذا إيحاء لشيء لا أعلمه ، أو لشيء مستقبلي ، فكيف يمكنني التمييز بينهم ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

ما اقترفه إخوة يوسف من ظلم لأخيهم ؛ لم يكن بوحي من الله تعالى ، وإنما من وسوسة أنفسهم، كما وصف حالهم أبوهم يعقوب عليه السلام ، وهذا في قوله تعالى:

  وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ   يوسف/18.

وأقرّ هؤلاء الإخوة بأنهم كانوا خاطئين.

قال الله تعالى:  قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ   يوسف /91 - 92.

وفي نهاية الأمر ، قال يوسف عليه السلام :  وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ  يوسف /100 .

فنصت الآية صريحة ، على أن ما كان من أمر يوسف ، إنما كان من نزغ الشيطان بينه وبين إخوته.

وأما قول الله تعالى:  فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ  يوسف/15 .

فنص على أن الوحي كان إلى يوسف عليه السلام   وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ  وليس إلى إخوته.

فليس في الآية ما يدل على أن الوحي كان إلى إخوة يوسف.

والله تعالى لا يأمر بالمنكر من الأفعال كالظلم، وإنما يأمر بالعدل.

قال الله تعالى:   قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ  الأعراف /28 - 29.

وبهذه الآية فسر أهل العلم قوله تعالى:   وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا  الإسراء/16.

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" في معنى قوله: ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا )، في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:

الأول: وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء: أن الأمر في قوله: ( أَمَرْنَا ) هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره، والمعنى: ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) بطاعة الله وتوحيده ، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به: ( فَفَسَقُوا )، أي: خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله ( فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ) ، أي وجب عليها الوعيد ( فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) أي: أهلكناها إهلاكا مستأصلا، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.

وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة؛  كقوله: ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ... ) الآية. فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء ، دليل واضح على أن قوله: ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا )، أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء...

وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: أمرته فعصاني، أي أمرته بالطاعة فعصى. وليس المعنى: أمرته بالعصيان كما لا يخفى " انتهى من "أضواء البيان" (3 / 574 - 575).

وفي معنى الآية أقوال أخرى لا يتسع الجواب لذكرها ومناقشتها .

ثانيا:

الظن بأن الذنوب قد تكون طريقا للخير، هذا خلط عظيم ، وفساد في التصور ، ومعرفة البديهيات ، وهو تلبيس محض، ووسواس من الشيطان الرجيم ، وخطر لا يخفى على عقيدة المسلم ودينه ؛ وهو وسوسة من الشيطان يهون بها ارتكاب المعاصي.

فسعادة الدنيا والآخرة لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح، والسيئات ترجع بالضرر على صاحبها؛ وهذا أمر لا يجوز أن يكون فيه شك أو تردد ، وبهذا أرسل الله تعالى جميع رسله.

قال الله تعالى:   وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ   الأنعام/48 - 49.

فالاعتقاد بأن الله تعالى يلهم عباده عمل السيئات؛ ليصلوا إلى الخير، اعتقاد غير صحيح قطعا، ويخشى على صاحبه أن ينجر بسبب هذا الاعتقاد الفاسد من الصغيرة إلى الكبيرة ، إلى أكبر الكبائر ، والعياذ بالله .

ويوسف عليه السلام أكرمه الله تعالى برفعة المكانة في الدنيا بسبب إحسانه في طاعة الله تعالى، وليس بمعصية إخوته.

قال الله تعالى:  وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ   يوسف/56.

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:

" وهكذا وطَّأنا ليوسف في الأرض - يعني أرض مصر - ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ )، يقول: يتخذ من أرض مصر منزلا حيث يشاء، بعد الحبس والضيق، ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ) من خلقنا، كما أصبنا يوسف بها، فمكنا له في الأرض بعد العبودة والإسار، وبعد الإلقاء في الجبّ، ( وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) يقول: ولا نبطل جزاء عمل من أحسن، فأطاع ربه، وعمل بما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله " انتهى من "تفسير الطبري" (13 / 220).

فالحاصل؛ أن المسلم إذا فعل معصية ، فإنما هي من قبل نفسه والشيطان ؛ فعليه أن يبادر بالتوبة، حتى ينجو من تبعاتها.

واحذر يا عبد الله من تلبيس الشيطان عليك ، ووسواسه لك ، وأكثر من ذكر الله ، وتلاوة كتابه، وملازمة الصالحين، ومجالس أهل العلم والذكر ، واشغل نفسك بالحق والطاعة، ولا تدعها فارغة من الخير، فتشغلك بما لا ينفع ؛ بل بما يضرك في دينك ودنياك .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب