الحمد لله.
أولا: ما يتلفظ به من المسلم من غير قصد واختيار فإنه لا يؤاخذ به
ما يتلفظ به المسلم من التزامات على نفسه، إنما يؤاخذ بها إذا كانت عن تعمّد واختيار وقصد من القلب، وأصل هذا قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).
وأما ما يصدر من غير قصد ولا اختيار، كأقوال المكره والمخطئ فإنه لا يؤاخذ بها .
قال الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ البقرة /286.
قال الشيخ محمد الامين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا؟
وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الآية، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله: ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك...
وقد ثبت في "صحيح مسلم": ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، قال الله تعالى: نعم ). " انتهى من "أضواء البيان" (1 / 312).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها ، حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها ، مريدا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ، مريدا له؛ فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ ، اختيارا. وإرادة موجَبِه ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصود ، واللفظ وسيلة = هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام... " انتهى من "أعلام الموقعين" (4 / 447).
ثانيا: ظهار أو طلاق الغضبان
على هذا الأصل تبنى أقوال الغضبان؛ فإذا كان الغضب يزيل عن المتكلم القدرة على عقل وتفهم ما يقوله، أو يزيل عنه القدرة على الاختيار، فيخرج منه الكلام اضطرارا من غير تعمد له؛ فهذا لا اعتبار بمجرد كلامه ، ولا ينبني عليه أحكامه، وبهذا جاء النص في مسألة الطلاق.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا طَلَاقَ، وَلَا عَتَاقَ فِي غِلَاقٍ رواه أبو داود (2193)، وحسّنه الألباني بمجموع أسانيده في "إرواء الغليل" (7 / 113)، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " الْغِلَاقُ: أَظُنُّهُ فِي الْغَضَبِ ".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده، فهذا من أعظم الإغلاق، وهو في هذا الحال بمنزلة المبرسم، والمجنون، والسكران، بل أسوأ حالًا من السكران؛ لأن السكران لا يقتل نفسه، ويلقي ولده من علو، والغضبان يفعل ذلك، وهذا لا يتوجه فيه نزاع أنه لا يقع طلاقه، والحديث يتناول هذا القسم قطعًا " انتهى من "إغاثة اللهفان" (ص 19).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" إن غيَّره الغضب ولم يَزُل عقله، لم يقع الطلاق؛ لأنه ألجأه ، وحمله عليه ، فأوقعه وهو يكرهه، ليستريح منه، فلم يبق له قصد صحيح، فهو كالمكره، ولهذا لا يجاب دعاؤه على نفسه وماله، ولا يلزمه نذر الطاعة فيه " انتهى من "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (22 / 138 - 139).
وما يقال في الطلاق يقال في الظهار فالمعنى واحد.
وأما إن كان الغضب لم يزل عن المتكلم القدرة على تمييز ما يقول ، ولم يزل عنه القدرة على اختيار كلامه ، والقدرة على التحكم في أقواله؛ فهو في هذه الحالة تلزمه أحكام ما يتكلم به.
سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" أنا رجل متزوج من ابنة عمي، ولي منها خمسة أطفال، وقد حصل خلاف صغير، ولكنها أصرت على طلب الطلاق مني... حتى اشتد غضبي منها، فقلت لها: أنت طالق وحُرِّمْتِ عليَّ، وأنتِ كأمي في الدنيا وفي الآخرة ؟
فأجاب رحمه الله تعالى: أولاً نسأل عن الغضب: هل هو غضب شديد بحيث لا تدري ما تقول؟ فإن هذا الكلام يعتبر لاغيا، لا الطلاق، ولا الظهار؛ لأن الغضبان الذي يصل إلى حد لا يدري ما يقول لا يعتبر كلامه شيئا.
أما إذا كان الغضب دون ذلك ، بحيث تتصور ما قلت، فتملك نفسك، فإنه قد وقع عليك الطلاق والظهار أيضا، لأنك شبهتها بأمك، وتشبيه الرجل زوجته بأمه هو الظهار... " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (10 / 444).
والله أعلم.
تعليق