السبت 22 جمادى الأولى 1446 - 23 نوفمبر 2024
العربية

طرق عملية للتوبة بعد الانتكاس

416569

تاريخ النشر : 27-03-2023

المشاهدات : 10221

السؤال

أنا شاب كنت ملتزما، وابتليت بالانتكاس، وبالدخان، والأغاني، فدلوني على طريقة عملية للتوبة.

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

 ما من عبد إلا وهو معرض لأن تغلب عليه الذنوب، بعد أن كانت تغلب عليه الطاعات، هذا من تقلب الدنيا بأهلها، فلا تجعلن ذلك يُقنطك من رحمة الله.

قال الله تعالى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الزمر/53.

يقول ابن الجوزي: "فانظروا إخواني إلى التوبة النصوح الصادقة كيف أثرت وقاومت العذاب، فدفعت ونفعت؟!

فليلجأ العاصي إلى حرم الإنابة، وليطرق بالأسحار باب الإجابة، فما صدق صادق فَرُدَّ، ولا أتى البابَ مخلصٌ فصُدّ، وكيف يُرد من قد استدعي، فقيل لهم: (توبوا)؟!

إنما الشأن في صدق التوبة، وليست التوبة نطق اللسان، إنما هي ندم القلب وعزمه أن لا يعود.

ومن شرط صحتها: أن تكون قبل معاينة أمور الآخرة، فمن باشره العذاب أو عاينه فقد فات موسم القبول، فاستدركوا قبل المفاجأة بالفوات الذي لا يؤمن، نسأل الله يقظة تحركنا إلى البدار قبل أن يقع الفوت والخسار" انتهى، من "التبصرة" (1/297).

"التوبة تَجُبُّ كلَّ الذُّنوب، التوبة لا يبقى معها ذنب؛ قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى طه/82، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا الزمر/53، والله تعالى يفغر الشِّرك ويغفر الكفر إذا تاب منه؛ قال تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ الأنفال/38، وقال في النَّصارى الذين يقولون: إنَّ الله ثالثُ ثلاثة! ويقولون: إنَّ الله هو المسيح ابن مريمَ! قال تعالى: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة/74.

فلا تيأس، ولا تقنط، وتُب إلى الله" انتهى، من "المنتقى" للشيخ الفوزان (2/21).

ويقول الشيخ ابن باز: "التوبة تجب ما قبلها، عليه التوبة إلى الله والصدق في ذلك بالندم على ما مضى من عمله، والعزم ألا يعوده ثم الاستكثار من العمل الصالح، من ذكر الله واستغفاره والتطوع بالصلوات وغيرها من الصدقات والصيام ونحو ذلك" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (6/198).

ثانيًا:

أيها العبد التائب المنيب إلى ربه؛ إياك أن تهزم مرتين!!

والمعنى في هذا: أن تعلم أن الباب الأعظم للشيطان ليس هو أن تقع في الذنب، فكل الناس يذنبون؛ وإنما الباب الأعظم للشيطان هو في أن تهجر الطاعة، وتغفل التوبة، وتستمرئ المعاصي والذنوب؛ حتى تصير لك حالا دائمة، بدل أن تكون زلة عابرة في الطريق، وعثرة طارئة؛ لا تلبث أن تنهض بعدها، وتعقبها التوبة النصوح.

فالمشكلة الكبرى في الذنب ليست هي نفس الذنب، ولكن أن يتركك الذنب في حالة وهاء نفسي، يختلط فيها احتقار النفس، بتخلي حفظ الله عنك؛ مما يقود للاسترسال في ذنوب شتى، ويقود للمصيبة الكبرى حقًا؛ وهي ترك الطاعات.

ولعل هذه هي الأزمة العظمى التي تتسبب فيها كبائر الذنوب، أنها تقود إلى هذا أسرع بكثير.

فمِن أسوأ عقوبات المعاصي: أنَّها تفقدك الثقة بنفسك، وتحدث خللًا في جهازك المناعي.

وهذا هو الأصل الذي يندرج تحته ما يذكر من أنَّ من عقوبة الذنبِ: الذنب بعده.

فأنت تكونُ بعد الذنب في حالة وهاء نفـسي وفقدان للثقة، وهذه الحالة هي مفتاح القنوط؛ وهي بذات القدر: مفتاح تسلط الشيطان على العباد.

لكنَّ تلك الحال، ليست حالة لازمة لا فكاك للعبد منها، وإلَّا لَـمَا قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَتْبِعِ السَّيِئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا" أخرجه الترمذي(1987)،

بل ولا فتح الله لعباده أبواب التوبة، ودعاهم للولوج إلى رحمته منها؛ لو أن تلك الحالة من الضعف، كانت قدرا ملازما للعبد إذا أذنب.

ومن أعظم الوسائل المعينة على استعادة الثقة بعد الذنب: التوبة، والاستغفار، والفزع إلى الصلاة، وقراءة القرآن.

وإن عدت للذنب عد ثانية لهذا العلاج؛ فإنه: "لَنْ يَمَلَّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا" أخرجه مسلم (782).

وفي الخبر أنَّ النبي  صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ؛ لَخَلَقَ اللهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ" أخرجه مسلم (2748)

ولتحرص على أن تصنع لك مسارًا ثابتًا للطاعة، لا يتأثر بوقوعك في الذنب، فلا تدع الطاعات ، وداوم عليها، ولا يزهدنك الشيطان فيها، ولا يقولن لك: تقوم من الليل، وأنت تفعل كذا، وكذا؟! تصوم النهار، وأنت تأتي كذا وكذا؟! هيهات.

فراغم عدوك اللعين، وليكن لك خبء من عمل صالح مع ربك، ولا تقطع حبال الوصل مع أرحم الراحمين، ولا تقنط من رحمته، وكاثر السيئات بالحسنات:

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ هود/114.

واحرص على عدم الاسترسال في ذنوب أخرى، حتى ولو ابتليت بذنب أصررت عليه، لا تطاوعك نفسك على تركه، فلا تنتقل من خانة إلى خانة، لا تنتقل من خانة الإذناب، بلا إصرار إلى خانة الإذناب بإصرار، ولا تنتقل من خانة الذنب بإصرار، إلى خانة الاسترسال في الصغائر، ولا تنتقل من خانة الاسترسال في الصغائر، إلى خانة الوقوع في كبيرة، ولا تنتقل من خانة الوقوع في كبيرة، إلى خانة الذي لا يبالي أي محارم الله انتهك حتى يُختم له بالكفر والعياذ بالله.

دائمًا احرص على الوقوف بالخسارة عند حدها الأدنى، واحرص على بقاء مسار الطاعة ثابتًا لا يتأثر بمسار المعصية، فإذا كنت تحرص على الجماعة، ولك ورد من القرآن والذكر؛ فلماذا تترك شيئًا من هذا إذا وقعت في ذنب؟

إنك كمن وجد في بيته ذبابة، ففتح كوة الحائط لتتسرب منها سائر أنواع الهوام، فلا يلبث الحائط أن يسقط ويتهدم البيت كله.

إن العاقل من يسعى إلى أن يسد كل المنافذ التي تنفذ منها الحشرات ..

إن العاقل من ينجو بنفسه من تلك الرزايا والرذائل ..

إن العاقل من إذا وجد نفسه متورطا في ذنب، أن يستكثر من الطاعات، لا أن يستقل منها؛ إنه كمن وجد نجاسة وقعت في ماء قليل .. وانماعت فيه، فكاثر تلك النجاسة والقاذورة بماء كثير، طيب؛ حتى لا يبقى للنجاسة ولا للقذر أثر في مائك:

قال الله تعالى: ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) هود/114-115.

وقال تعالى : ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) العنكبوت/45.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ؟!

قَالَ: ( إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ ) !!

رواه أحمد (9778) وغيره، وصححه الألباني.

قال الطيبي، رحمه الله: " يعني أن قولك: (يصلي بالليل)؛ يدل علي أنه محافظ علي الصلوات، مداوم عليها؛ لأن من لا يدع الصلاة بالليل، فهو بأن لا يدعها بالنهار أحرى.

فمثل تلك الصلاة: تنهاه عن الفحشاء والمنكر؛ فيتوب عن السرقة. وهذا معنى السين في (ستنهاه)؛ لأن السين في تأكيد الإثبات، مقابلة لن في تأكيد النفي". انتهى، من "شرح المشكاة" (4/1210).

ثم احذر أن تكون ممن يستبشع ذنوبًا، ثم إن لسانه ليسترسل في أعراض الناس، وإن قلبه ليحمل الضغائن والأحقاد وتعشش فيه سموم القلوب، فاعزم على تطهير نفسك من هذا وذاك.

مهما غلبتك نفسك، لا ينبغي أن تنقطع عن ثوابت العمل اليومية، والتي هي بمثابة زادك الروحي، أعني: القرآن، والصلاة، والذكر، والدعاء، وتذاكر كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته وسير أصحابه، وتربية النفس على مكارم الأخلاق.

وبعض الناس ربما أنكرت نفسُه أنَّه يلازم هذه الثوابت، ثم إنَّ قلبه لا يلين، ونفسه لا ترتدع عن سقطات الذنوب المتتابعة؟!

والحق: إنَّ العلم والعبادة، ولين القلب، وملازمة المساجد، ووصال القرآن، وسائر شُعب الإيمان لا تعطيك حلاوتها إلَّا مع الصبر والمجاهدة، وكثرة القرع على بابها.

وأكثر الناس يقرع قرعا خفيفا، ثم لا يلبث أن ينصرف؛ فكيف يصيب حلاوتها؟!

وانظر جواب السؤال رقم: (14289)، ورقم: (134466)، ورقم: (45001).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب