الحمد لله.
أولاً :
النوم آية من آيات الله الكونية ، كما قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) الروم/23 .
ونوم الليل هو الأصل ، ونوم النهار فرع ، وقد جعل الله تعالى النهار للعمل والانتشار في طلب الرزق ، وجعل الليل للراحة ، وفي الليل يكون النوم ، وفي النهار العمل ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) الفرقان/47 ، وقال تعالى : ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) النمل/86 ، وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً . وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً . وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ) النبأ/9-11 .
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله - :
أي : ومن الآيات ما جعل لكم من صفة النوم في الليل والنهار، فيه تحصل الراحة وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 310 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
( وجعلنا نومكم سباتاً ) أي : قاطعاً للتعب ، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب ، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل ، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام : استراح وتجدد نشاطه ، وهذا من النعمة ، وهو أيضاً من آيات الله ، كما قال الله تعالى : ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ) الروم/23 ...
( وجعلنا النهار معاشاً ) أي : معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم ، وعلى حسب أحوالهم ، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد .
" تفسير جزء عمَّ " ( ص 22 ، 23 ) .
ثانياً :
لم يأتِ في الشرع ما يُلزم المسلم بالنوم في ساعة معينة والاستيقاظ في أخرى ، ولا يُلزمه الشرع بالنوم لقدر معيَّن من الساعات ، بل يرجع ذلك لطبيعة عمُر الأشخاص ، وحاجة أبدانهم للراحة ، كما يرجع لطبيعة أعمالهم ، فعامل الليل ينام في النهار أكثر مما ينامه في الليل عامل النهار ، ونوم الشتاء يختلف عن نوم الصيف ، وهكذا .
والمعدَّل الطبيعي لنوم الإنسان يكون من 5 إلى 8 ساعات يوميّاً ، ومن نام أقل من ذلك لقدرة جسمه على التحمل ، أو أكثر من ذلك لحاجة جسمه لذلك : فلا حرج عليهما ، والمهم في الأمر في الإسلام أن يلتزم المسلم بأوقات الصلوات ، فيكون فيها نشيطاً ليؤدي العبادة على وجهها الأكمل ، وإذا طلب الجسد الراحة والنوم : فلا ينبغي دفع ذلك عنه .
قال الشيخ محمد بن أحمد السفاريني – رحمه الله - :
لا ينبغي مدافعة النوم كثيراً , وإدمان السهر , فإنَّ مدافعة النوم وهجره مورث لآفات أُخر من سوء المزاج ، ويبسه ، وانحراف النفس , وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل , وتورث أمراضا متلفة .
وما قام الوجود إلا بالعدل ، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير ، وفي " الآداب الكبرى " قال بعض الحكماء : النعاس يذهب العقل , والنوم يزيد فيه .
فالنوم من نِعَم الله جل شأنه على عباده , ولهذا امتنَّ عليهم في كتابه .
" غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب " ( 2 / 359 ) .
وينبغي أن يُعلم أن النوم الزائد عن حاجة البدن يسبِّب ثقلاً في الطاعة ، وخبلاً في العقل ، ومن هنا جاءت بعض العبارات عن السلف في ذم كثرة النوم .
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - : خصلتان تقسيان القلب : كثرة النوم ، وكثرة الأكل .
وقال ابن القيم – رحمه الله - :
وأما مفسدات القلب الخمسة : فهي التي أشار إليها : من كثرة الخلطة ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام ، فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب .
" مدارج السالكين " ( 1 / 453 ) .
وشرح ما يتعلق بالنوم فقال – رحمه الله - :
المُفسد الخامس : كثرة النوم ؛ فإنه يميت القلب ، ويثقل البدن ، ويضيع الوقت ، ويورث كثرة الغفلة والكسل ، ومنه المكروه جدّاً ، ومنه الضار غير النافع للبدن .
وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه ، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره ، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه ، وكلما قرب النوم من الطرفين : قل نفعه وكثر ضرره ، ولا سيما نوم العصر ، والنوم أول النهار إلا لسهران ، ومن المكروه عندهم : النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس ؛ فإنه وقت غنيمة ، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة ، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس ؛ فإنه أول النهار ، ومفتاحه ، ووقت نزول الأرزاق ، وحصول القسم ، وحلول البركة ، ومنه ينشأ النهار ، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر .
وبالجملة : فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول ، وسدسه الأخير ، وهو مقدار ثمان ساعات ، وهذا أعدل النوم عند الأطباء ، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه .
ومن النوم الذي لا ينفع أيضا : النوم أول الليل عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء ، وكان رسول الله يكرهه ، فهو مكروه شرعاً وطبعاً ، وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام : من سوء المزاج ، ويبسه ، وانحراف النفس ، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل ، ويورث أمراضاً متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها ، وما قام الوجود إلا بالعدل ، فمن اعتصم به : فقد أخذ بحظه من مجامع الخير ، وبالله المستعان .
" مدارج السالكين " ( 1 / 459 ، 460 ) .
والله الموفق
تعليق