الحمد لله.
أولا :
التعدد حق شرعه الله تعالى للرجل بقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) النساء/ 3 .
وفيه من الحِكَم ما لا يخفى ، فأنت بما حباك الله تعالى به من نعمة الزوج ، ربما لا تدركين ما تتجرعه المرأة العانس التي لم تتزوج ، أو الأرملة والمطلقة التي صارت بلا زوج ، فلماذا تبخلين بفضل الله تعالى على أخت لك مسلمة ؛ تشاركك في زوجك ، وبهذا يندفع عنها ألم الوحشة ومرارة الوحدة .
في حين أنك لن تفقدي زوجك بذلك ، ولا ينبغي أن تتركيه ، غاية ما هنالك أن نصيبك منه سوف يكون أقل من ذي قبل ؛ هكذا إذا كان الأمر قاصرا على الحساب العاجل ، ومقاييس المكسب والخسارة المادية .
لكن الأمر سوف يختلف إذا كنت ستحتسبين عند الله تعالى هذا الوقت والمال الذي سيخص به زوجك زوجته الأخرى ، وترجين من الله الخلف عما فاتك ، والبركة والفضل فيما آتاك .
إننا يا أمة الله نخاطب فيك الإيمان ، ونخاطب فيك العقل ، فلا يستفزنك الشيطان فيحملك على طلب الطلاق أو الخلع ، فتصيرين بلا زوج ، وتضيعين أسرتك وأولادك إن كنت ذات ولد ، ثم تنقشع عنك سكرة الغضب والغيرة ، فتجدين نفسك قد خسرت ما لعلك تعجزين عن تعويضه مدى الحياة !!
إن الطلاق مهما كان سببه – وقعه على المرأة شديد ، وتأثيره على المرأة في
علاقاتها الاجتماعية ، ونظرة المجتمع لها شديد ، لا تتحمله أكثر النساء .
ولا يرتاب عاقل في أن صبر المرأة على التعدد خير لها وأهون من صبرها على أن تعود
إلى بيت أهلها ، ثم تبقى هكذا بلا زوج ، في غالب حالها ؛ وقد كانت العرب تقول : زوج
من عُود ؛ خير من قعود !!
ولسنا نقول : إن التعدد لن يؤثر عليك بشيء مطلقا ، ولكننا نقول : إن بإمكانك أن
تتعايشي مع هذا الوضع الجديد ، وتتكيفي معه ، وتندمجي من خلاله في حياتك الطبيعية ،
كما عاش النساء دهرهن قبلك ، وكما سيعشن بعدك إلى ما شاء الله .
وإنما يمكنك أن تفعلي ذلك ، متى استعنت بالله تعالى ، وتكلفت الصبر والتحمل ، حتى
ييسر الله لك أمرك ، ويكشف غمك ، ويصلح شأنك ، ويبارك لك في زوجك وأسرتك ، وبيتك .
وتأملي ـ يا أمة الله ـ في عاقبة الطلاق ، فلن تكون أهون مما أنت فيه ، إذا تدبرت في أمرك بحكمة وروية ، وعلمت حال كثير ممن طلبن الطلاق بسبب ذلك ؛ وكيف أنهن قد ندمن على ذلك كل الندم ، وتمنين أن لم يكنَّ قد فعلن ذلك ؛ ولكن بعد فوات الأوان ، وركوب متن العناد والشطط ، وطاعة الغضب الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يوقع صاحبه إلا في الشر .
والنصيحة لك أن تستعيني بالله تعالى ، وتقفي بين يديه سبحانه في ليل طويل
تتضرعين وتبثين شكواك إليه ، وهو سبحانه القادر على أن يذهب عنك ما مسك الشيطان به
من نصب وعذاب ، قال تعالى لنبيه الكريم : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا . وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا)
الإنسان/ 24، 26 .
وقال جل شأنه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) البقرة/ 153 " أوصى سبحانه عباده
بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين" .
انتهى من " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " (1 / 12).
ثانيا :
أما طلب المرأة الطلاق بسبب التعدد ، فلا يجوز ذلك ، وليس مجرد التعدد من الأسباب
التي تبيح للمرأة أن تطلب الطلاق ، فإن الله تعالى أباح للرجل التعدد مع ما يصيب
المرأة منه من هم وضيق .
لأن الإسلام ينظر في هذا إلى المصالح العامة المتعلقة بالمجتمع والتي تترتب على
التعدد ، فتلك المصالح تقدم على مصلحة المرأة في الانفراد بزوجها .
وليست مصلح التعدد راجعة إلى الرجل وحده – كما ذكرت في سؤالك – وإنما هي مصالح
للمجتمع كله .
فلو أبيح للمرأة أن تطلب الطلاق بسبب ذلك ، لكان في هذا مضادةٌ للحكمة التي أرادها
الله من مشروعية التعدد ، وتضييعٌ لها .
ولكننا قدمنا في السؤال رقم : (186325) أن المرأة إذا لم تستطع أن تتحمل ذلك وخشيت
أن لا تؤدي حق زوجها فيجوز لها طلب الطلاق .
وينظر أيضا للفائدة جواب السؤال رقم : (165543) .
ولكن هذا ليس هو الحالة المرضية ولا الطبيعية ، وإنما هو من أجل قصور المرأة وقلة
صبرها ، فهذه حالة استثنائية لا ننصح بها المرأة ، ثم لا تدري لعلها تطلب الطلاق ،
ثم يتبين لها بعد فوات الأوان أن ما كانت فيه أهون مما صارت إليه .
ثالثا :
أما منع النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب من الزواج على ابنته فاطمة رضي
الله عنها ، فهذا لا يصح الاستدلال به لكل امرأة ، وإنما هو لخصوصيةٍ لفاطمة رضي
الله عنها ، ولخصوصيةٍ لأبيها عليه الصلاة والسلام ، فليست أذيته وأذيتها كأذية
سائر الناس ، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم : (162287).
وأما قولك ، عن تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك : " لا يمكن إلا
أن يصب في صالحهن " ؟ ؛ فيقال فيه : إن هذا مجرد دعوى ، ودعوى غريبة أيضا ، لم تعرف
أن حقيقة النساء واحدة ، وأن الغيرة من ذلك الأمر : هي أمر عام مشترك في النساء
جميعا ؛ وإلا فاسألي نفسك يا أمة الله : أي مصلحة لزوجة من زوجات النبي صلى الله
عليه وسلم في أن يتزوج عليها ، ويقل نصيبها من قسمه ، ويضعف حظها من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟
وأي امرأة أحق بالغيرة على زوجها ، والحرص عليه ، والشح بكل لحظة تفوتها منه ؛ من
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ؟
لكنه : الدين الذي يعصم ، يا أمة الله !! والرضا بالله ، وبما شرعه لعباده ؛ وهذا
هو الفرق حقا ، وهو ما نريد أن نهرب منه ، ولا نتحمله مشقة الجهاد فيه ، والصبر
عليه .
وأما قولك : " وأما نحن فماذا نستفيد ؟ " ، فالجواب عنه : أننا نستفيد التسليم لأحكام الله تعالى والرضا بها ، وعدم الاعتراض عليها ، وكفى بها من فائدة ، فإن هذا هو حقيقة الإسلام وأصل الإيمان .
نعم كراهية المرأة لزواج زوجها بأخرى أمر طبيعي وفطري ، لكن الألم والكراهة
الطبيعية شيء ، والتسليم لأمر الله وشرعه ، والرضا به ربا ، وبنبيه رسولا ،
وبالإسلام دينا : شيء آخر .
وقد نص أهل العلم ـ كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى ـ على أنه " ليس من شرط
الرضى ألا يحس بالألم والمكاره ، بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ، ولهذا أشكل
على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا : هذا ممتنع على الطبيعة وإنما هو
الصبر ، وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية وهما ضدان ؟
والصواب : أنه لا تناقض بينهما ، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى ,
كرضى المريض بشرب الدواء الكريه ، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر ، بما يناله من
ألم الجوع والظمأ ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها" .
انتهى من "مدارج السالكين" (2/175) .
وبهذا تعلمين أن ما تجدين في صدرك من ضيق وحرج : هو أمر طبيعي فطري ، ما لم يصاحبه تسخط على أحكام الله تعالى ، أو كراهية لها ، أو يحملك ذلك على فعل شيء محرم , وقد سبق بيان هذه المسألة بالتفصيل في الفتوى رقم : (148099).
وأنت إن شاء الله لا يظهر منك – كما هو واضح من السؤال – كراهة لأحكام الله ، بل الواضح أنك فقط تعانين من الجزع ، وقلة الصبر وضيق الصدر ,،وتخافين أن يجرك هذا إلى المكروه من الاعتراض على أحكام الله جل وعلا ، وهذه المخاوف علامة الإيمان .
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن كراهية هذه الوساوس من علامات الإيمان
وذلك فيما أخرجه مسلم (132) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " جَاءَ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ : إِنَّا
نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟ قَالَ :
( وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ ) ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ: ( ذَاكَ صَرِيحُ
الإِيمَانِ ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان ، وبوساوس
الكفر التي يضيق بها صدره . كما قالت الصحابة : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه
ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال : ( ذاك صريح
الإيمان ). وفي رواية : ما يتعاظم أن يتكلم به. قال : ( الحمد الله الذي رد كيده
إلى الوسوسة).
أي : حصول هذا الوسواس ، مع هذه الكراهة العظيمة له ، ودفعه عن القلوب : هو من صريح
الإيمان ، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه ، فهذا عظيم الجهاد" .
إلى أن قال : " ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعُبَّاد من الوساوس والشبهات ، ما ليس
عند غيرهم ، لأنه (أي الغير) لم يسلك شرع الله ومنهاجه ، بل هو مقبل على هواه في
غفلة عن ذكر ربه ، وهذا مطلوب الشيطان ، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة
، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى " انتهى ملخصا من " مجموع الفتاوى " (7 /
282) .
فمجرد هذه الوساوس لا تضرك إن شاء الله تعالى ، وينبغي إذا عرضت لك أن تستعيذي بالله تعالى من الشيطان الرجيم ، وأن تقطعي التفكير فيها .
ويراجع الفتوى رقم : (12315).
والله أعلم.
تعليق