الحمد لله.
أولا : قد جاءت عدة أحاديث ، يذكر فيها أن الجنة درجات . فمن ذلك :
الحديث الأول :
أخرجه الترمذي في "سننه" (2914) ، وأحمد في "مسنده" (6799) ، من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( يُقَالُ ، يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ ،: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا ).
والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2240) .
قال الخطابي في "معالم السنن" (1/289) :" جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة ، يقال للقارئ ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن ، فمن استوفى قراءة جميع القرآن، استولى على أقصى درج الجنة ، ومن قرأ جزءا منها كان رقيه في الدرج على قدر ذلك ، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة ". انتهى.
وقال ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص79) :" وفي المسند عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد ، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة ، حتى يقرأ آخر شيء معه ). وهذا صريح في أن درج الجنة تزيد على مائة درجة " انتهى .
الحديث الثاني :
أخرجه البخاري في "صحيحه" (647) ، من حديث أبي هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ ، وَفِي سُوقِهِ ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا تَوَضَّأَ ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً ، إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ، فَإِذَا صَلَّى ، لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ ).
الحديث الثالث :
أخرجه مسلم في "صحيحه" (488) ، من حديث مَعْدَان بْن أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ ، قَالَ: " لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ ، فَسَكَتَ . ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ . ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: (عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً ، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً ) .
الحديث الرابع :
أخرجه النسائي في "سننه" (1297) ، من حديث أنس بن مالك ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ ) .
والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (500) .
هذا، مع أن الذي يظهر أن الأحاديث التي ذكر فيها رفع الدرجة، في مقابل حط الخطيئة، كما في الأحاديث السابقة؛ الذي يظهر أن المراد بالدرجة في هذه الأحاديث: (الحسنة) وزيادة الأجر، وليس خصوص الدرجة في الجنة، التي يبحث في عددها .
قال ابن رسلان رحمه الله: " (إِلَّا رفعَ) الله لَهُ (بِهَا دَرَجَةٌ) : يحتمل أن هذِه الدرجة معنوية ، بمعنى: ارتفاع رتبته ومنزلته عند الله تعالى، أو في الجنة، ويجوز أن تكون حقيقية ، وهي درج الجنة.
لكن ما بعده [يعني: ذكر الخطيئة]: يرجح الأول . (أو حُطَّ بِهَا) أي: بسببها أو لأجلها (عنه خطيئة) أي محيت من صحيفته." انتهى، من "شرح سنن أبي داود" (3/570). وينظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/105).
الحديث الخامس :
أخرجه الترمذي في "سننه" (3428) ، من حديث ابن عمر ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( مَنْ دَخَلَ السُّوقَ ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ ).
وهذا الحديث مختلف في صحته، وأكثر الأئمة على ضعفه ونكارته ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم : (223533) .
ثانيا : الحديث الذي أورده السائل الكريم من كون درجات الجنة مائة درجة ، الأقرب فيه أنه لا يدل على حصر درجات الجنة في مائة درجة ، وبيان ذلك كما يلي :
أولا :
الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (2790) ، من حديث أبي هريرة ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا )، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ:( إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ ).
ثانيا :
الحديث لا يعارض ما تقدم من الأحاديث من كون أن درجات الجنة لا يعلم عددها إلا الله ، أو أنها بعدد آي القرآن .
فمعنى فوله صلى الله عليه وسلم :( إن في الجنة مائة درجة ) : لا ينفي وجود أكثر من هذا ، كما في حديث :" إن لله تسعة وتسعين اسما " ، مع حديث :" وأسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "
وقد تكلم أهل العلم في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم :( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين ) ، على وجوه :
أن تكون هذه درجات المجاهدين فقط دون غيرهم .
أو يكون العدد غير مقصود ، وإنما المراد به الكثرة .
أو يكون المعنى أن لكل واحد من أهل الجنة مائة درجة ؟
والأرجح أن تكون هذه المائة درجة مختصة بالمجاهدين ، كما في نص الحديث ، وهذا لا ينفي وجود درجات أخرى ، كما في الأحاديث السابقة .
قال أبو العباس القرطبي في "المفهم" (12/28) :" وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( وأخرى ترفع بها العبد مائة درجة ) ؛ أي : خصلة أخرى . والدرجة : المنزلة الرفيعة ، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها ؛ التي أعلاها الفردوس ، كما جاء في الحديث .
ولا يظن من هذا : أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد ، بل هي أكثر من ذلك ، ولا يُعلم حصرها ولا عددها إلا الله تعالى ، ألا تراه قد قال في الحديث الآخر : ( يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ) ؛ فهذا يدل : على أن في الجنة درجات على عدد آي القرآن ، وهي نيف على ستة آلاف آية ، فإذا اجتمعت للإنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن ، جمعت له تلك الدرجات كلها . وهكذا كلما زادت أعماله ، زادت درجاته ". انتهى.
وقال العز ابن عبد السلام في "الفوائد في اختصار المقاصد" (153) :" وللمؤمنين درجات في الإيمان ، عليات ، ودنيات ، ومتوسطات .
وللمجاهدين مئة درجة في الجنة ، مترتب أعلاها على أعلى رتب الجهاد ، وأدناها على أدناها ". انتهى.
وقال ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص66) :" وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال:" الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" . وهذا يدل على أنها في غاية العلو والارتفاع ، والله أعلم . والحديث له لفظان ، هذا أحدهما ، والثاني : ( إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ) . وشيخنا يرجح هذا اللفظ ، وهو لا ينفي أن يكون درج الجنة أكبر من ذلك ، ونظير هذا قوله في الحديث الصحيح : ( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) . أي من جملة أسمائه هذا القدر ، فيكون الكلام جملة واحدة في الموضعين "انتهى.
وقال ابن حجر في "فتح الباري" (13/413) :" وَأَمَّا قَوْلُهُ :" مِائَةُ دَرَجَةٍ ". فَلَيْسَ فِي سِيَاقِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ هُوَ جَمِيعُ دَرَجِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِيهَا . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَرْفُوعِ ، الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وابن حِبَّانَ: ( وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْد آخر آيَة تقرؤها ) . وَعَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ وَمِائَتَيْنِ ، وَالْخُلْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكُسُورِ "انتهى.
والحاصل مما سبق :
أن الأظهر في عدد درجات الجنة: إما أنها لا تنحصر في عدد معين ، أو أنها على عدد آيات القرآن ، وأن حديث " في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين " ، ليس نصا في حصر درجات الجنة عامة ، في مائة فقط ، وإنما المذكور فيه : درجات المجاهدين .
والله أعلم .
تعليق