الحمد لله.
أولا :
حديث دعاء السوق هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ دَخَلَ السُّوقَ ، فَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ ، بِيَدِهِ الخَيْرُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ ) رواه الترمذي في " السنن " (3428) .
وقد اختلف العلماء في حكم هذا الحديث ، وذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : الحكم عليه بشدة الضعف والنكارة .
قال أبو حاتم رحمه الله :
" هذا حديث منكر جدًا ، لا يحتمل سالم هذا الحديث " انتهى من " العلل " (5/312) .
وقال علي بن المديني رحمه الله :
" هذا حديث منكر من حديث مهاجر من أنه سمع سالمًا ، وإنما روى هذا الحديث شيخ لم يكن عندهم بثبت ، يقال له: عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير ، حدثناه زياد بن الربيع عنه به . فكان أصحابنا ينكرون هذا الحديثَ أشد الإنكار لجودة إسناده ... ولو كان مهاجر يصح حديثُه في السوق لم يُنكَر على عمرو بن دينار هذا الحديث " .
انتهى نقلا عن " مسند الفارق " (2/641) للحافظ ابن كثير .
وحكم البخاري على إحدى طرقه بأنه " منكر "، كما في " العلل الكبير " للترمذي (رقم/363) .
وقال الملا علي القاري رحمه الله :
" قيل : لا أصل له ، أو بأصله موضوع " انتهى من " الأسرار المرفوعة " (329) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" مما يقوي ضعفه غرابة متنه ونكارته ؛ لأن من قواعد أئمة الحديث أن الثواب العظيم على العمل اليسير يدل على ضعف الحديث ، ولا شك أن ما ذكر في المتن غريب جدا من حيث الكمية فيما يعطى من الحسنات ويمحى من السيئات ويرفع من الدرجات .
ولكن هذا التضعيف والنكارة في المتن لا يمنع من شرعية الذكر في الأسواق ؛ لأنها محل غفلة، فالذكر فيها له فضل عظيم ، وفيه تنبيه للغافلين ليتأسوا بالذاكر فيذكروا الله . والله ولي التوفيق. " انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (26/ 248) .
القول الثاني : الحكم عليه بالضعف اليسير .
فقد وصفه الإمام الترمذي رحمه الله بأنه " غريب " كما في " السنن " (3428) .
وقال العقيلي رحمه الله :
" الأسانيد فيه فيها لين " انتهى من " الضعفاء الكبير " (3/304) .
وقال الدارقطني رحمه الله :
" رجع الحديث إلى عمرو بن دينار ، وهو ضعيف الحديث ، لا يحتج به " .
انتهى من " العلل " (2/50) .
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله :
" لم يصح " انتهى من " عارضة الأحوذي " (7/32) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" معلول لا يثبت مثله " انتهى من " تهذيب السنن " (13/420) ، وفي " المنار المنيف " (33).
وقال ابن رجب رحمه الله :
" في إسناده ضعف " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/315) .
وقال ابن حجر :
" في سنده لين " انتهى من " فتح الباري " (11/206) .
وقال العجلوني رحمه الله :
" في سنده ضعف " انتهى من " كشف الخفاء " (2/324) .
القول الثالث : تحسين الحديث والحكم بقبوله .
يقول الإمام المنذري رحمه الله :
" إسناده متصل حسن " انتهى من " الترغيب والترهيب " (2/337) .
وحسنه الدمياطي في " المتجر الرابح " (ص473) .
وقال الذهبي رحمه الله :
" إسناده صالح غريب " انتهى من " سير أعلام النبلاء " (17/498). وقال في " تاريخ الإسلام " (29/346): " حسن غريب ".
وقال الشوكاني رحمه الله :
" أقل أحواله أن يكون حسنا " انتهى من " تحفة الذاكرين " (298) .
وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله – في دراسة موسعة - في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (رقم/3139)
وأغرب الحاكم فقال في " المستدرك على الصحيحين " (1/ 722): " هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " .
وأظهر الأقوال في الحديث ، والله أعلم ، قول من ضعف الحديث ، ووهى إسناده ، وعلى هذا عامة الأئمة المتقدمين من نقاد الحديث ، كما سبق النقل عن بعضهم ، واختاره من المعاصرين : الشيخ ابن باز رحمه الله ، كما سبق ، والشيخ عبد الله السعد ، ومحمد عمرو عبد اللطيف ، رحمه الله ، وأبو إسحاق الحويني ، وغيرهم ، وبه أفتت اللجنة الدائمة (1/13/14) .
ثانيا :
على فرض الأخذ بقول من حسن الحديث ، أو ضعفه ضعفا يسيرا ، فلا حرج على المسلم أن يأتي بهذا الذكر محتسبا الأجر عند الله ، فإن كان الأجر ثابتا فالحمد لله ، وإلا نال أجر ذكر الله العام الذي هو أحب الأعمال إلى الله .
ولهذا قرر العلماء هذا الذكر في كتبهم وأبوابهم ، فقال الطبراني في " الدعاء " (ص251): " باب القول عند دخول الأسواق " ، وقال النووي في " الأذكار " (ص303): " باب ما يقول إذا دخل السوق ".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فصل:
قول أحمد بن حنبل : إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد ؛ وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد ؛ وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ... مرادهم بذلك : أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع كتلاوة القرآن ؛ والتسبيح والدعاء ؛ والصدقة والعتق ؛ والإحسان إلى الناس ؛ وكراهة الكذب والخيانة ؛ ونحو ذلك ، فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها ، وكراهة بعض الأعمال وعقابها : فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه : إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع ، جازت روايته والعمل به ، بمعنى : أن النفس ترجو ذلك الثواب ، أو تخاف ذلك العقاب ، كرجل يعلم أن التجارة تربح ، لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا ، فهذا : إن صدق نفعه ، وإن كذب لم يضره ؛ ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات ؛ والمنامات ، وكلمات السلف والعلماء ؛ ووقائع العلماء ، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي ؛ لا استحباب ولا غيره ، ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب ؛ والترجية والتخويف .
فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع ، فإن ذلك ينفع ولا يضر ، وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا ، فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه ؛ فإن الكذب لا يفيد شيئا . وإذا ثبت أنه صحيح ، أثبتت به الأحكام .
وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ، ولعدم المضرة في كذبه ، وأحمد إنما قال : إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد. ومعناه: أنا نروي في ذلك بالأسانيد ، وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم في ذلك .
[و] قول من قال : يعمل بها في فضائل الأعمال ، إنما العمل بها ، العمل بما فيها من الأعمال الصالحة ، مثل التلاوة والذكر ، والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة .
فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا ، مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة ، أو على صفة معينة ، لم يجز ذلك ؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي؛ بخلاف ما لو روي فيه ( من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله كان له كذا وكذا ) فإن ذكر الله في السوق مستحب ؛ لما فيه من ذكر الله بين الغافلين ، فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته " انتهى باختصار من " مجموع الفتاوى " (18/65-68) .
ثالثا :
المعتبر في " السوق " هو السوق العرفي بين الناس ، وهو مكان تجمع المحال والبضائع ، كما جاء في " لسان العرب " (10/ 167) : " السوق : موضع البياعات . ابن سيده : السوق التي يتعامل فيها ... سميت بها لأن التجارة تُجلب إليها ، وتساق المبيعات نحوها " انتهى. وجاء في " المعجم الوسيط " (1/464): " السُّوق : الْموضع الَّذِي يجلب إِلَيْهِ الْمَتَاع والسلع للْبيع والابتياع " انتهى .
فكل ما يسميه الناس " سوقا " يستحب فيه هذا الذكر والدعاء ، سواء أسواق الملابس أو الأطعمة أو السيارات أو الأسواق المالية ونحوها ، وسواء أيضا المجمعات التجارية الكبيرة ، وما يسمى اليوم بـ " المولات " .
ولكن يجزئ عنه إذا دخل المجمع التجاري (المول) أن يأتي بالذكر عند مدخل هذا المجمع ، ولا يشرع عند دخول كل متجر خاص داخل هذا المجمع أن يأتي بالذكر ، وكذلك إذا دخل سوقا تجاريا مفتوحا في الشارع العام مثلا ، يأتي بالذكر عند أول تسوقه ، ولا يكرره عند كل محل يدخله .
وأما المحلات المنفردة ، والبقالات الصغيرة ، والصيدليات ، ونحو ذلك ، مما ينفرد بنفسه ، ويقصده القاصد لحاجة معينة ، لا يتجول فيه ، ولا هو موطن عام يدخله : فلا يظهر أنه يسمى سوقا ، وما زال الناس في عرفهم يفرقون بين البقالة ، والسوق العام ، الذي قد يكون له مكان مخصوص كل يوم ، أو يعقد في يوم معين ، كما في بعض البلدان .
ومع ذلك ، فلو ذكر الله عند دخوله مثل هذه الأماكن ، سواء بهذا الذكر المعين ، أو غيره من الأذكار : فهو عمل بر وخير ، ولا مانع منه ، بل هو مشروع مستحب في الجملة ، لما تواتر من فضائل الذكر المطلق والمقيد .
والله أعلم .
تعليق