أخذ الفائدة الربوية لتعويض النقص في قيمة النقود الشرائية
نسبة لغلاء المعيشة حيث يفقد المال قيمته الشرائية بنفس درجة غلاء المعيشة. مثال ـ إذا كان نسبة غلاء المعيشة 2% فيكون ثمن ما يمكن شراؤه اليوم بـ 100 دينار 102 دينار بعد سنة. إذا تعاملت مع بنك فقط للحفاظ علي قيمة نقودي الشرائية ، أي إعطائي مبلغا بنسبة مساوية لغلاء المعيشة الحالي ، فماذا يكون وضعي دينيا ؟
الجواب
الحمد لله.
أولا :
لا شك أن غلاء المعيشة المتزايد يعني أن الاحتفاظ بالنقود يفقدها قدرا من قيمتها
الشرائية ، ولهذا ينبغي البحث عن وسائل مشروعة لاستثمارها .
ونظرا لمخاطر الاستثمار ، وفقدان الثقة في الجهات الاستثمارية عند كثير من الناس ،
فإن بعضهم يلجأ إلى الإيداع في البنوك الربوية ، وأخذ الفائدة ، وهذا إما من الجهل
بحرمة هذا التصرف ، أو من إيثار الدنيا على الآخرة ، فإن هذا الإيداع الربوي محرم
تحريما عظيما ، لأنه الربا الذي لعن آكله وموكله وكاتبه وشاهداه ، وهو الربا الذي
توعد الله فاعله بالحرب والمقت .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ
لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ )
البقرة/278-279 .
روى مسلم (1598) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ
. وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة
وثلاثين زنية ) رواه أحمد والطبراني ، وصححه
الألباني في صحيح الجامع برقم 3375
وحقيقة الإيداع في هذه البنوك : أنه قرض بفائدة ، والمقرض هو العميل ، والمقترض هو
البنك ، لأن القرض إعطاء المال ثم أخذ بدله ، وتسمية ذلك وديعة خطأ واضح ، فإن
الوديعة يُحتفظ بعينها ، ولا يتصرف فيها ، كوضع المال في صندوق الأمانات مثلا ،
بحيث يبقى المال بعينه دون تغيير ، أما أن يتصرف البنك في المال تصرف الملاك ، مع
التزامه برد مثل المال ، فهذا هو القرض ، فإذا كان مع التزام فائدة عليه ، كان قرضا
ربويا مجمعا على تحريمه .
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله : " وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف .
قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المُسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية ، فأسلف
على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا . وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود
أنهم نهوا عن قرض جر منفعة " انتهى من
"المغني" (6/436).
وقال ابن عبد البر رحمه الله : " وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي
ربا , ولو كانت قبضة من علف , وذلك حرام إن كان بشرط " انتهى من
"الكافي " (2/359)
.
ونقصان القيمة الشرائية للنقود لا يبيح اشتراط الفائدة التي هي عين الربا ، بل
القرض يُرد كما هو ولو نقصت قيمته .
وقد جاء في "موسوعة فتاوى الأزهر" ، فتوى للشيح جاد الحق شيخ الأزهر السابق رحمه
الله ، فيما نحن بصدده ، نوردها للفائدة
السؤال " السائل أهديت له شهادات استثمار من الفئة (ب) ذات العائد الجارى من والده
بمناسبة زواجه وهى في حوزته إلى الآن .
وقد استحق صرفها حاليا ولها أرباح عن فترة حيازته لها .
والسؤال : هل هي حلال بأرباحها .
علما بأن قيمتها الشرائية الآن مع أرباحها أقل من قيمتها وقت الإهداء والشراء .
فأجاب : " اصطلح فقهاء الشريعة على أن ربا الزيادة هو زيادة مال بلا مقابل في
معاوضة مال بمال .
وقد حرم الله الربا بالآيات الكثيرة في القرآن الكريم .
وكان آخرها نزولا على ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قول الله سبحانه وتعالى (
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم
قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه
فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ) البقرة /275 -276 ،
وحرمه كذلك بما ورد في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، عن أبى
سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب،
والفضة بالفضة، والبر بالبر ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا
بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء) .
ولما كان مقتضى هذه النصوص أن الربا يدخل فيه كل زيادة على المال المقترض أو المودع
بالشرط والتحديد بلا مقابل، وقد أجمع المسلمون على تحريمه إعمالا لنصوص القرآن
والسنة الشريفة .
ولما كانت شهادات الاستثمار من الفئة (ب) ذات فائدة محددة مشروطة مقدما زمنا
ومقدارا، كانت داخلة في ربا الزيادة المحرم شرعا بمقتضى تلك النصوص، باعتباره قرضا
بفائدة مشروطة مقدما زمنا ومقدارا .
أما ما جاء بالسؤال من أن قيمة هذه الشهادات الشرائية الآن مع أرباحها أقل من
قيمتها وقت إهدائها إلى السائل أو وقت الشراء فلا يصلح مبررا لاستحلال هذه الفوائد
الربوية، فقد نقل الإمام الإسبيجابي في شرح الطحاوي اتفاق الفقهاء على أن الفلوس
إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو نقصت، فعلى المقترض مثل ما قبض من العدد مادام نوع
الفلوس محددا (رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود من رخص وغلاء وكساد وانقطاع
للعلامة ابن عابدين ج - 2 مجموع الرسائل ص 58 - 67) .
وإذ كان ذلك ، كانت القيمة الاسمية لهذه الشهادات حلالا باعتبار أن أصلها جاء هدية
من كسب حلال في الغالب حملا لحال المؤمنين على الصلاح، كما هو الأصل .
أما الفائدة التي استحقت عليها طبقا لنظام إصدارها فهى من باب ربا الزيادة المحرم،
باعتبارها محددة زمنا ومقدارا، ولا يحل للمسلم الانتفاع بهذه الفائدة باعتبارها من
الأكساب المحرمة، وله قبضها وتوجيهها إلى أي طريق من طرق البر كبناء المساجد أو
المستشفيات أو إعطائها لفقير أو مسكين على ما أشارت إليه سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في التصرف في الكسب الحرام، إبراء لذمة المسلم من المسئولية أمام الله .
فقد ورد في الحديث الشريف عن أبى برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه
، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )
، والله سبحانه وتعالى أعلم " انتهى
.
ولهذا نقول لأخينا السائل : إما أن تبحث عن وسيلة مشروعة لاستثمار المال ، ولو
بشراء سلع تحتفظ بقيمتها غالبا كالأرض والذهب ونحو ذلك ، وإما أن تصبر وتحتسب ،
وتتحمل ما ينشأ عن حفظ المال من نقص في قيمته .
ثانيا :
لا يجوز وضع المال في البنك الربوي إلا لغرض حفظه إذا خيف عليه من السرقة ، ويُجعل
حينئذ في الحساب الجاري لا في حساب التوفير ، ارتكابا لأهون الشرين ، وفي حال ترتب
فائدة عليه ، يجب التخلص منها بصرفها للفقراء والمساكين وفي المصالح العامة ، ولا
يجوز لصاحب المال الانتفاع بشيء منها .
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد .
والله أعلم .