حول حديث الأعمى الذي قتل أم ولده لشتمها النبي صلى الله عليه وسلم
سؤالي يتعلق بالحديثين التاليين :
( أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تتزجر ، قال فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه ، فأخذ المغول - سيف قصير - فوضعه في بطنها ، واتكأ عليها ، فقتلها ، فوقع بين رجليها طفل ، فلطخت ما هناك بالدم ، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس فقال : أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام ، فقام الأعمى يتخطى رقاب الناس وهو يتزلزل ، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! أنا صاحبها ، كانت تشتمك وتقع فيك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت بي رفيقة ، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك ، فأخذت المغول ، فوضعته في بطنها ، واتكأت عليها حتى قتلتها .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا اشهدوا أن دمها هدر )
[ رواه أبو داود ، وقال عنه الألباني : صحيح ، في كتابه " صحيح سنن أبي داود " الحديث رقم (4361) [
" أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت له أم ولد ، وكان له منها ابنان ، وكانت تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسبه فيزجرها ، فلا تنزجر ، وينهاها فلا تنتهي ، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقعت فيه ، فلم أصبر أن قمت إلى المغول ، فوضعته في بطنها ، فاتكأت عليه ، فقتلتها ، فأصبحت قتيلا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس ، وقال : أنشد الله ! رجلا لي عليه حق فعل ما فعل إلا قام . فأقبل الأعمى يتدلدل فقال : يا رسول الله ! أنا صاحبها ، كانت أم ولدي ، وكانت بي لطيفة رفيقة ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر . فلما كانت البارحة ذكرتك فوقعت فيك ، قمت إلى المغول فوضعته في بطنها ، فاتكأت عليها حتى قتلتها .
فقال رسول الله : ألا ؛ اشهدوا أن دمها هدر )
[ رواه النسائي ، وقال عنه الألباني : إسناده صحيح . في كتابه " صحيح سنن النسائي " الحديث رقم 4081 ]
يلاحظ أن رواية أبي داود فيها عبارة غير موجودة في رواية النسائي ، وهي :
" فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم "
أنا أعلم حكم المرتد ، وأن المختص بتوقيع حد الردة هو السلطان أو نائبه .
إن الذي لفت نظري هي العبارة المشار إليها أعلاه ، حيث أنه قد يتبادر إلى الذهن أن حد الردة يطبق أيضا على الجنين .
هل هذه العبارة المشار إليها صحيحة وثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
وإذا كانت هذه العبارة صحيحة ، هل يمكن تفسير ذلك بأن الرجل كان أعمى ولم يكن يعلم أن أمته حامل ؟
وإذا كانت هذه العبارة صحيحة ، هل يمكن تفسير ذلك بأن الطفل لم يمت كما قال بذلك السيد
لا أقصد من سؤالي إثارة الشكوك حول أن الإسلام هو الدين الحق ، ولكني أردت الرجوع إلى العلماء حتى يوافوني بالرد الذي أستطيع به الرد على من يطعن بالإسلام .
وفقكم الله لما يحب ويرضى .
الجواب
الحمد لله.
الكلام على هذه الحادثة المذكورة في السؤال في المسائل الآتية :
أولا : الحكم على الحديث .
الحديث رواه أبو داود ( 4361 ) ، ومن طريقه
الدارقطني ( 3 / 112 ) ومن طرق أخرى أيضا ، ورواه النسائي في " المجتبى " ( 4070 )
وفي " السنن الكبرى " ( 2 / 304 ) ، وابن أبي عاصم في " الديات " ( رقم 249 )
والطبراني في " المعجم الكبير " ( 11 / 351 ) والحاكم في " المستدرك " ( 4 / 394 )
والبيهقي في " السنن الكبرى " ( 7 / 60 )
جميعهم من طرق عن عثمان الشحام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس به ، على اختلاف في ألفاظ
الروايات وتطويل وتقصير .
وهذا سند حسن ، رواته ثقات ، ولذلك فقد قبل الحديث : أبو داود والنسائي بإخراجهما له
وسكوتهما عنه ، والإمام أحمد أيضا ، فقد قال المجد ابن تيمية : " واحتج به أحمد في
رواية ابنه عبد الله " انتهى من " نيل
الأوطار " ( 7 / 208 ) ، وقال
الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وصححه
الذهبي في " تلخيصه " ،
وابن حجر في " بلوغ المرام " ( 363 )
وقال : رواته ثقات ، وقال الشيخ الألباني في " إرواء الغليل " ( 5 / 91 ) : إسناده
صحيح على شرط مسلم . انتهى
.
ويشهد له ما جاء عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( أَنَّ
يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَقَعُ فِيهِ ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا ) .
رواه أبو داود في " السنن " ( 4362 ) ، ومن
طريقه : البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7 / 60 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة "
( 2 / 169 ) .
قال الشيخ الألباني في " إرواء الغليل " ( 1251 ) : إسناده صحيح على شرط الشيخين ،
لكنه ضعفه في " ضعيف أبي داود " بالانقطاع
.
ولعل الأقرب هو الحكم بإرسال الحديث ، فقد قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب "
( 5 / 68 ) : " وقال الدارقطنى فى " العلل " : لم يسمع الشعبي من عليٍّ إلا حرفاً
واحداً ، ما سمع غيره .
كأنه عنى ما أخرجه البخاري فى " الرجم " عنه عن علي حين رجم المرأة قال : رجمتها
بسنَّة النبى صلى الله عليه وآله وسلم "
انتهى كلام ابن حجر .
لكن مراسيل الشعبي مقبولة عند كثير من أهل العلم ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "
الصارم المسلول " ( ص 65 ) : وهذا الحديث جيد ؛ فإن الشعبي رأى عليّاً ، وروى عنه
حديث شراحة الهمدانية ، وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة ، وهو كوفي ، فقد ثبت
لقاؤه ، فيكون الحديث متصلا ، ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي :
فهو حجة وفاقاً ؛ لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل ، لا يعرفون له مرسلا إلا صحيحا ،
ثم هو من أعلم الناس بحديث علي ، وأعلمهم بثقات أصحابه .
انتهى
.
وللقصة شاهد آخر يرويه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 4 / 210 ) فيقول :
أخبرنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله
بن معقل قال : ( نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة عمة رجل من الأنصار ، فكانت
ترفقه وتؤذيه في الله ورسوله ، فتناولها فضربها فقتلها ، فرفع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : أما والله يا رسول الله إن كانت لترفقني ، ولكنها آذتني في الله
ورسوله ، فضربتها فقتلتها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبعدها الله تعالى ، فقد أبطلت دمها ) .
وهذا السند رواته ثقات .
والحاصل بمجموع هذه الروايات : أن أصل القصة ثابتة في السنة النبوية .
ولكن : هل هي حادثة واحدة أم متعددة ؟ .
الذي يبدو أنها حادثة واحدة ، وإليه مال شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال :
ويدل عليه – أي : على أنها حادثة واحدة - : كلام الإمام أحمد ؛ لأنه قيل له في
رواية عبد الله : في قتل الذمي إذا سَبَّ أحاديث ؟ قال : نعم ، منها حديث الأعمى
الذي قتل المرأة ، قال : سمعها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم روى عنه عبد
الله كلا الحديثين .
ويؤيد ذلك : أن وقوع قصتين مثل هذه لِأَعْمَيَيْنِ ، كل منهما كانت المرأة تحسن
إليه وتكرر الشتم ، وكلاهما قتلها وحده ، وكلاهما نشد رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم فيها الناسُ : بَعِيدٌ في العادة .
" الصارم المسلول " ( ص 72 ، 73 ) باختصار
.
ويبقى إشكال في الجمع بين الاختلاف الذي جاء في الروايات في طريقة قَتل اليهودية :
هل كان خنقاً أم طعناً بالسيف في بطنها ؟ .
ذكر ابن تيمية فيه احتمالين : احتمال أن ابن أم مكتوم خنقها ثم طعنها ، والاحتمال
الثاني وجود الخطأ في إحدى الروايتين .
انظر " الصارم " ( ص 72 )
.
ثانياً:
ليس في الرواية ما يدل على أنه كان في بطن اليهودية جنين ، ومَن فهم ذلك مِن السياق
فقد أخطأ ، وأما قوله في بعض ألفاظ الروايات : ( فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك
بالدم ) : فلا يدل على هذا بوجه من الوجوه ؛ بل الظاهر أنه طفل من طفليها الذين
وصفهما بقوله :
( مثل اللؤلؤتين ) ، جاء إلى أمه مشفقا عليها فتلطخ بالدم ، والدليل على ذلك أن لفظ
رواية الطبراني للحديث فيه : ( فَأَصْبَحَ طِفْلَيْهَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا
مُلَطَّخَيْنِ بِالدَّمِ ) – كذا بالياء : " طفليها " - ، وأيضا في لفظ رواية
البيهقي : ( فَوَقَعَ طِفْلاَهَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا مُتَضَمِّخَانِ بِالدَّمِ ) .
ويدل على ذلك : ما جاء في " سؤالات الآجري أبا داود السجستاني " ( ص 201 ) :
قال أبو داود : سمعت مصعبا الزبيري يقول : عبد الله بن يزيد الخطمي : ليس له صحبة ،
قال : وهو الذي قتل الأعمى أمه ، وهو الطفل الذي سقط بين رجليها ، التي سبَّت النبي
صلى الله عليه وسلم .
انتهى
.
إذاً فليس هناك جنين مقتول ، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بأخذ الجنين بجريرة أمه ،
والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، على أن
اختلاف ألفاظ الحديث ورواياته ، ومجيئها مرسلة أحيانا عن عكرمة ، كما رواه أبو عبيد
القاسم بن سلام في " الأموال " ( رقم 416 )
، ونقد بعض الحفاظ لمرويات عثمان الشحام بوجود المناكير فيها ، كما قال يحيى القطان
: تعرف وتنكر ، ولم يكن عندي بذاك ، وقال أبو أحمد الحاكم : لم يكن بالمتين عندهم .
وقال الدارقطني : بصري يعتبر به : كل ذلك يوجب الشك والتوقف في بعض التفاصيل
المذكورة في القصة ، لكنه لا يرقى إلى رد أصل الرواية ونفي قيام الحادثة ، فقد جاءت
لها شواهد أخرى سبق ذكرها ، وقبلها أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين .
ثالثاً:
في هذه القصة دليل على العدل الذي كان المسلمون يعاملون به أهل الكتاب ، والذي جاءت
به الشريعة رحمة للعالمين ، فحقوق اليهود المعاهدين مصونة محفوظة ، ولا يجوز التعرض
لهم بشيء من الأذى والضرر ، لذلك لما وجد الناس يهودية مقتولة ضجوا ورفعوا أمرها
إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطاهم العهد والأمان ، ولم يكن يأخذ منهم
الجزية ، فغضب وناشد المسلمين بالله تعالى أن يظهر من فعل تلك الفعلة ، لينظر في
عقابه ويقضي في أمره ، ولكن لَمَّا عَلِمَ أنها نقضت العهد مرات ومرات ، بأذاها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعها فيه ، حُرِمَت جميعَ حقوقها ، واستحقت حد
القتل الذي توجبه الشريعة على كل من يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء كان مسلما
أو ذميّاً أو معاهداً ، فإن التعرض لمقام الأنبياء كفر بالله العظيم ، ونقض لكل
حرمة وحق وعهد ، وخيانة عظمى توجب أشد العقوبات .
انظر " أحكام أهل الذمة " ( 3 / 1398 )
، وفي موقعنا جواب السؤال رقم : (
22809 ) .
وأما أن " المختص بتوقيع حد الردة هو السلطان أو نائبه " ، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله هذا الإشكال ، فقال :
" يبقى أن يقال : الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه ؟ " ، ثم قال رحمه الله :
" و جوابه من و جوه :
أحدها : أن السيد له أن يقيم الحد على عبده ، بدليل قوله صلى الله عليه و سلم : (
أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) [ رواه
أحمد (736)
وغيره ، وحسنه الأرناؤوط لغيره ، ومال الألباني إلى
أن هذه الجملة من كلام علي ، كما في الإرواء (2325) ]
، و قوله : ( إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ) [
رواه أبو داود (4470) وهو في
الصحيحين بلفظ : " فليجلدها الحد " ] ، و لا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن
يقيم عليه الحد ، مثل حد الزنا و القذف و الشرب ، ولا خلاف بين المسلمين أن له أن
يعززه ، واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا ، مثل قتله لردته ، أو لسبه
النبي صلى الله عليه و سلم وقطعه للسرقة ؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان : إحداهما :
يجوز ، وهو المنصوص عن الشافعي ، والأخرى : لا يجوز ، كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي
، وهو قول مالك ، وقد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق ، وصح عن حفصة أنها قتلت
جارية لها اعترفت بالسحر ، وكان ذلك برأي ابن عمر ؛ فيكون الحديث حجة لمن يجوز
للسيد أن يقيم الحد على عبده بعلمه مطلقا ...
الوجه الثاني : : أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام ، والإمام له أن يعفو
عمن أقام حدا واجبا دونه .
الوجه الثالث : أن هذا ، وإن كان حدا ، فهو قتل حربي أيضا ؛ فصار بمنزلة قتل حربي
تحتم قتله ، وهذا يجوز قتله لكل أحد ...
الوجه الرابع : أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، مثل
المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لم يرض بحكمه ،
فنزل القرآن بإقراره ، ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل ، حتى سماه النبي صلى
الله عليه وسلم ناصر الله ورسوله ؛ وذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين و
يفسده ، ليس بمنزلة من قتل لأجل معصيته من زنا و نحوه . "
انتهى من الصارم المسلول (285-286)
.
والله أعلم