اقتباس الألفاظ النبوية وتضمينها في الشعر
قال احد الشعراء فأنا قتيل العشق ملء إرادتي رفع الكتاب وجفت الاقلام ولما نوقش في الشطر الثاني من البيت قال : انه للضرورة الشعرية وأنه من قبيل رواية الحديث بالمعنى وأن الكتاب الذي سجل أقدرانا رفع وحفظ وأن الأقلام قد جفت فما توجيهكم حول هذا ؟
الجواب
الحمد لله.
أما بعد : فإن المعنى الذي أراده القائل هنا لا يزال صحيحا موافقا للمعنى الوارد في
الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف
) رواه الترمذي (2440) من حديث ابن عباس ،
وقال حسن صحيح ،
فإن وصف القلم بالجفوف قد ورد في الأحاديث الصحيحة أيضا ففي صحيح البخاري (4686)
قال صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق " قال الحافظ ابن
حجر في الفتح (9/119): ( أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي
كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به ) .
وأما قوله : " رفعت الصحف " ، فهو من تمام هذا المعنى : أن هذا أمر قد جرى به سابق
القدر ، ولم تعد الصحف منشورة يكتب فيها ، بل رفعت وطويت من قديم ، حتى لقد جف
مدادها ، كناية عن قدم رفعها .
وقد ورد حديث ابن عباس بلفظ : ( قضي القضاء و جفت الأقلام وطويت الصحف )
رواه البيهقي في الشعب (192ـ ط الرشد ) ، والطبراني
في الكبير (12/238) ، وقال محقق الشعب : إسناده حسن ، والحديث صحيح لطرقه . اهـ
.
وجاء الأثر بلفظ : رفع الكتاب ، كما ذكره الناظم ، عن الحسن بن علي رضي الله عنه ،
موقوفا عليه ، قال : ( رفع الكتاب وجف القلم ، وأمور تقضى في كتاب قد خلا )
رواه عبد الله بن أحمد في السنة (783)
والفريابي في القدر (84) والطبراني في الكبير (2684) وتمام في فوائده (1375) .
والمعنى في الجميع واحد ، قال
الحافظ ابن رجب رحمه الله : " هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها ، والفراغ
منها من أمدٍ بعيد ، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته ، ورفعت الأقلامُ عنه ،
وطال عهده ، فقد رُفعت عنه الأقلام ، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها ،
وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها ، وهذا من أحسن الكنايات
وأبلغِها .
وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى ، قال الله تعالى :
( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) وفي " صحيح مسلم [ 2653 ] " عن عبد الله بن عمرو ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائق قبل
أنْ يخلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألفَ سنة ) .. "
انتهى من جامع العلوم والحكم (1/508)
.
و لكن هنا مسألة أخرى وهي ما حكم اقتباس كلمات من القرآن أو الحديث ووضعها في الشعر
أو النثر من كلام الناس ؟
والجواب : أن ذلك جائز عند جمهور أهل العلم إذا كان لمقاصد حسنه تضاهى وتشابه
المقاصد الشرعية ، أما الكلام الفاسد ككلام أهل البدع أو كلام أهل المجون والفحش ،
ونحو ذلك ، فإنه لا يجوز اقتباس الألفاظ الشريفة ووضعها فيه .
انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية (6/17)
.
قال السيوطي رحمه الله في الإتقان (1/297 ) (وفي شرح بديعية ابن حجة الاقتباس ثلاثة
أقسام: مقبول ومباح ومردود.
فالأول: ما كان في الخطب والمواعظ والعهود.
والثاني: ما كان في الغزل والرسائل والقصص.
والثالث: على ضربين: أحدهما: ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى
نفسه: كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله:"إن إلينا
إيابهم* ثم إن علينا حسابهم".
والآخر تضمين آية في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك كقوله:
أوحى إلى عشاقه طرفه === هيهات هيهات لما تـوعدون
وردفه ينطق مــن خلفه === لمثل ذا فليعمل العاملـــــون
قلت: وهذا التقسيم حسن جدا وبه أقول ) انتهى
.
وقال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية (2/ 289) : " سئل ابن عقيل عن وضع كلمات
وآيات من القرآن في آخر فصول خطبة وعظية؟ فقال: تضمين القرآن لمقاصد تضاهي مقصود
القرآن لا بأس به تحسينا للكلام ، كما يضمن في الرسائل إلى المشركين آيات تقتضي
الدعاية إلى الإسلام، فأما تضمين كلام فاسد فلا يجوز .. "
انتهى
.
ومما سبق يتبين أن ما فعله هذا الناظم غير جائز ، لما فيه من امتهان النصوص الشرعية
الكريمة ، ووضعها في غير موضعها اللائق بها .
ثم إن المعنى الذي ذكره هذا الناظم مختل غير متناسب ؛ فحق الذي يقول : إنه قتيل
العشق ملء إرادته ، أن يقر على نفسه بالجناية ، وأنه الذي أورد نفسه الموارد حتى
أتلفها ، لا أن يذيل ذلك برفع الكتاب وجفاف القلم ، وما فيه من تقرير سبق المقادير
؛ اللهم إلا أن يكون الرجل لا يعلم مغزى الكلام ، ولا يدري معنى الحديث ، وإنما هو
شيء اجتلبته القافية ، وضرورة الشعر ، فهذا شأنه أن يعلم مقاصد الكلام ، ويدرب على
أن يضع الشيء موضعه ؛ وقد قالوا في البلاغة : إنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال .
والله أعلم