هل الرعاية الصحية سبب لتقليل عدد الوفيات؟
قرأت في إحدى المجلات هذه العبارة : (كلما زادت الرعاية الصحية قل عدد الوفيات) والآجال محددة لا يمكن أن يزاد فيها ، فالرعاية الصحية لا دخل لها في الآجال . فما رأيكم في ذلك ؟
الجواب
الحمد لله.
" مضت سنة الله تعالى في خلقة أن يربط المسبَّبات بأسبابها ، فربط إيجاده النسل
بالجماع ، وإنباته الزرع ببذر الحبوب بالأرض وسقيها ، والإحراق بالنار ، والإغراق
أو البلل بالماء إلى غير ذلك من الأسباب ومسبباتها ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْ
الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء/30 ، وقال : (وَأَنزَلْنَا مِنْ
الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ
أَلْفَافًا) النبأ/14-16 ، وقال : (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا
طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا
كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) ق/9-11 ، وقال : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ)
الأنفال/11 .
فهذه الآيات وأمثالها تضمنت أسباباً مادية ومسبَّبات معنوية ومادية ربط الله بينها
وجعل الأولى سبباً في الثانية ، وكلاهما من خلق الله تعالى وبقضائه وقدره ، وهناك
أسباب معنوية رتب الله عليها مسببات مادية ومعنوية ، وأنشأها بها ، وهو قادر على أن
يخلق المسببات بدون أسبابها ، لكنه سبحانه جرت سنته أن يخلق هذه بتلك ، ويوجدها بها
؛ لحكمة يعلمها ، قال تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ
فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)
هود/1-3 ، وقال عن نبيه هود عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه : (وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ) هود/52 ، وقال عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام في دعوته قومه : (يَا
قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِي * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ
َتعْلَمُونَ)نوح/2-4 ، وقال تعالى عن رسله عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم لأممهم :
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى) إبراهيم/10 .
وقد ذكر سبحانه أن جماعة من المنافقين قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا في غزوة أحد :
(لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)
آل عمران/156،
فأمر سبحانه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : (لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)
آل عمران/154 ، فبين أن قتل النفس مرهون بسببه ، وأن القتيل ميت بأجله لا قبله ولا
بدون سبب ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب أن يبسط له في رزقه
وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
وعلى هذا ؛ فللرعاية الصحية دورها الفعال في صحة الأبدان ومكافحة الأمراض ، لكن
بإذن الله وتقديره على ما سبق في علمه تعالى ، وبجعله تلك الرعاية سبباً لنتائجها
وترتيبه مسبباتها عليه بقضائه وقدره حسبما سبق في علمه تعالى ، فتبين بهذا أن
للأسباب دخلاً في مسبباتها من جهة جعل الله لها سبباً ، ومن جهة أمره سبحانه بالأخذ
بها رجاء أن يرتب الله مسبباتها عليها ، لا من ذاتها ولا بتأثيرها استقلالاً في
نتائجها ، بل بجعل الله لها مؤثرة ، ولو شاء الله أن يسلبها خواصها التي أودعها
فيها لفعل ؛ كما وقع في سلبه النار خاصيتها ، فلم تحرق خليله إبراهيم عليه الصلاة
والسلام ، بل كانت برداً وسلاماً عليه ، وفي سلبه خاصية السيولة والإغراق عن ماء
البحر حتى مر موسى عليه الصلاة والسلام وقومه بأمن وسلام ، ورد تلك الخاصة إليه عند
مرور فرعون ومن معه فأغرقهم ، والمسببات مرهونة بأسبابها قضاء وقدراً ، حتى الآجال
طولاً وقصراً مع الرعاية والإهمال على مقتضى ما سبق في علمه تعالى ، فقول السائل :
"إن الرعاية لا دخل لها في الآجال" ليس بصحيح على وجه الإطلاق ، فإن لها دخلاً في
ذلك على ما تقدم بيانه .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
انتهى .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد
الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن قعود .
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24/385) .