الخوف من الموت والعذاب ، ووساوس الشيطان في العقيدة
أنا فتاة عمري 25 عاماً ، محجبة ، وأحافظ على الصلاة ، وأقرأ القرآن ، ولكني منذ فترة وأنا أعاني ، حيث أني وبمجرد أن أستيقظ من النوم أبدأ أفكر في جهنم ، وأني سوف أموت في النهاية ، وسيكون مصيري النار ، ثم تطور الأمر إلى أن بدأت أشك في مصداقية الدِّين ، والقرآن ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن كل هذا قد يكون غير حقيقي ، وأني قد أدخل النار حتى لو لم أقترف جرماً ، وبالرغم من أني أعرف أن هذا التفكير كفر بالله ، ورغم أني أستغفر الله دائماً ، وأجتهد في ديني أكثر حتى أثبت : إلا أني لا أستطيع طرد هذه الأفكار ، خاصة بمجرد الاستيقاظ من النوم مباشرة ، حيث أشعر بعدها بتعب ، وإرهاق ، وارتخاء بالأعصاب .
الجواب
الحمد لله.
أولاً :
نسأل الله تعالى أن يبارك فيك أيتها الأخت الفاضلة ، وأن يزيدك إيماناً ، ويثبتك
على دينه .
واعلمي أن الخوف من الموت والعذاب أمران مطلوبان شرعاً ، وعواقبهما حميدة ، إذا كان
هذا الخوف دافعاً لصاحبه للإكثار من الأعمال الصالحة ، وللتزود لما بعد الموت ،
وأما إن كان هذا الخوف دافعاً لليأس والفتور والقنوط وترك العمل : فإنه من الوسواس
- والعياذ بالله – ليزرع الشيطان في قلب صاحبه الشك من الآخرة ، ثم الإنكار والجحود
!
وما الذي يجعل الإنسان يكره الموت ؟ إنهما – غالباً – أمران ، أحدهما مذموم ،
والآخر محمود ، فأما المذموم فهو تعلقه بالدنيا ، وأما المحمود فهو الرغبة
بالازدياد من الخير ، والشعور بالتقصير في حال أنه لقي ربه على حاله تلك .
ولكي يعالج السبب المذموم : فإن عليه أن يعلم أن الدنيا متاع زائل ، وأن الآخرة هي
دار القرار ، والسعادة الأبدية ، وبذا لن يتعلق قلبه بفانٍ على حساب دائم ، ولن
يركن إلى زائل على حساب باقٍ .
قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )
آل عمران/ 185
.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها ، وعدم بقائها ، وأنها متاع
الغرور ، تفتن بزخرفها ، وتخدع بغرورها ، وتغر بمحاسنها ، ثم هي منتقِلة ، ومنتقَل
عنها إلى دار القرار ، التي توفَّى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار ، من خير
وشرٍّ .
( فمن زحزح ) أي : أُخرج .
( عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي : حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم ،
والوصول إلى جنات النعيم ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على
قلب بشر .
ومفهوم الآية : أن مَن لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة : فإنه لم يفز ، بل قد شقي
الشقاء الأبدي ، وابتلي بالعذاب السرمدي .
" تفسير السعدي " ( ص 159 )
.
فلا تجعلي خوفك من الموت سبباً لتدهور حالتك الصحية ، وازدياد قلقك ويأسك ؛ فإن هذا
عين ما يريد الشيطان أن يناله منكِ ، ويحب أن يراه فيكِ ، وهو انتصار له على إرادتك
، وإيمانك بالله .
وكل مخلوق فهو لا يدري متى تُختم حياته بالموت ، ولذا فإن الواجب على المسلم أن
يتزود بالتقوى ، ويستعد للرحيل ، فربما حانت ساعته أو قربت وهو في غفلة :
روى البخاري (6416) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي
فَقَالَ : ( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ) .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ ،
وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ
لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ !!
وقال الشاعر :
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تبقى إلى الفجر
ثانياً:
أما ما يراودك من أفكار سيئة في التوحيد والعقيدة : فهذا من الوسوسة ، وهو من كيد
الشيطان ، يريد صرفك عن الاعتقاد السليم ، ويريد صدك عن العمل والطاعة ، وقولك " لا
أستطيع طرد هذه الأفكار " : غير مقبول منكِ ، بل أنت تستطيعين ، وما عليك سوى
اللجوء إلى الله ، والاستعانة به ، لطرد تلك الأفكار ، وللتخلص من تلك الوساوس ،
واعلمي أن كيد الشيطان ضعيف ، كما قال ربك تعالى ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ
ضَعِيفاً ) النساء/ من الآية 76
، لكنه – للأسف – يجد محلا ضعيفاً ، ومستقراً هزيلاً ، فيحط رحله فيه ، ولو أنك
حافظتِ على الأذكار الصباحية والمسائية ، وعلى ورد من القرآن ، وحافظت على الفرائض
، وأكثرت من النوافل : فلن يجد هذا الشيطان المريد مكاناً يحط رحله فيه ، بل سيجد
ما يخزيه ويسوؤه ، لذا فعليك أن تباشري بذكر الله تعالى بعد استيقاظك من النوم ،
بذكر الدعاء الوارد في ذلك ، وأعقبي ذلك بالاستغفار والاستعاذة ، ولو جعلتِ بجانبك
مسجلاً فيه شريط لقارئ يقرأ القرآن تشغلينه بعد استيقاظك ودعائك : لرأيتِ خيراً إن
شاء الله ، ولدُفع عنك كيد الشيطان ووسوسته .
فإياك أن تستسلمي للأفكار المردية ، وإياك أن تسترسلي معها ، وقوِّي قلبك بالإيمان
قبل أن تأتيك ، فإن جاءت فاطرديها بالذكر والاستعاذة .
وبشارة لك أختي الفاضلة : أن مجيء الشيطان بتلك الأفكار السيئة لك ، وتألمك منها :
فيه تزكية لك ، وهو يدل على تحليك بالإيمان ، وأن الشيطان ما جاء لك إلا لصرفك عنه
.
وهذا سؤال وجوابه لأخت لك ، وفي مثل عمرك تقريباً :
سئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله - :
أنا فتاة في العشرين من العمر ، مؤمنة ، ولله الحمد ، أعاني من مشكلة الوساوس ،
وعلى وشك الجنون من هذا المرض النفسي الذي عانيت منه ثلاث أو أربع سنوات ، ولم أفلح
أن أدفعه عني ، أريد أن أعرف : هل يسلط الله على عباده هذا الشيطان الرجيم امتحانًا
لهم أم ماذا ؟ والذي لا يستطيع دفعه ؛ ماذا عليه أن يفعل ؟ .
فأجاب :
في الحقيقة أن الوسوسة مرض خطير ، وهي من كيد الشيطان لبني آدم ، يريد بذلك
مضايقتهم ، وتضليلهم ، وإشغالهم عن طاعة ربهم ، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه
وسلم أن يستعيذ من هذه الوسوسة ، وأنزل في ذلك سورة كاملة .
قال تعالى : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ
. مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ .
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) الناس / 1 إلى
آخرها .
فهذا الشيطان له وسوسة مع بني آدم ، ويشتد ذلك في حق المؤمنين ، ولكن يعالج بأمرين
:
1. أن المؤمن لا يلتفت لهذه الوسوسة ، بل يرفضها رفضاً تامّاً ؛ لأنها من الشيطان ،
ولا تضره .
2. أن يشتغل بذكر الله سبحانه وتعالى ؛ لأن المؤمن إذا اشتغل بذكر الله ابتعد عنه
الشيطان ، ولهذا قال سبحانه وتعالى في حقه : ( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ )
الناس/ 4
؛ أي : أنه يوسوس للعبد مع غفلته عن ذكر الله ، ويخنس - أي : يبتعد - عنه عندما
يذكر العبد ربه عزّ وجلّ ، ولهذا وصفه أنه وسواس خناس .
والذي أنصح به للسائلة ولأمثالها أن تعمل بهاتين الخصلتين ، وهما :
أولاً : عدم الالتفات لهذه الوسوسة ، وعدم الاكتراث بها والانفعال معها ، ثم تزول
بإذن الله ؛ لأن الإنسان إذا أعطاها اهتماماً والتفت إليها : زادت ، وتمكن منه
الشيطان .
الثاني : الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى ، وتلاوة القرآن ، والاستعاذة بالله من
الشيطان ، وقراءة آية الكرسي والمعوذتين ، وتكرار ذلك ، وبهذا يزول بإذن الله .
" المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " ( 3 /
342 ، 343 ، السؤال رقم 509 ) .
وانظري ـ أيتها الأخت للأهمية ـ جواب السؤال رقم (98295)
.
على أنه ، إذا قدر بقاء تلك الوساوس بعد اجتهادك في الأذكار والرقى الشرعية ، وشغل
نفسك بطاعة الله ، وما تحتاجين إلى عمله من أمر الدنيا ، بحيث لا يبقى عندك فراغ
لهذه الوساوس ، إذا قدر أنك فعلت ذلك ، وبقيت معك تلك الوساوس أو شيء منها ، فيمكنك
هنا أن تعرضي حالك على طبيب مسلم ثقة ، ولعله يعالج لك ـ بإذن الله ـ ما بقي من
دائك .
وانظري تفصيلات مهمَّة في هذا الباب في أجوبة الأسئلة : (
10160 ) و (
39684 ) و (
62839 ) و (
25778 ) و (
12315 ) .
والله أعلم