الأحاديث الواردة في زواج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة من مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وكلثوم أخت موسى عليه السلام
نسمع في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتزوج في الحياة الآخرة السيدة مريم أم عيسى عليه السلام ، وآسية زوجة فرعون ، وكلثوم أخت النبي موسى عليه السلام .
ما هو الثابت من هذا في الأحاديث ، وما هو غير الثابت ؟
الجواب
الحمد لله.
جاء في بعض الأحاديث المروية ما يدل على أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم سيتزوج
في الجنة كلا من السيدة مريم البتول أم عيسى عليه السلام ، وآسية بنت مزاحم زوجة
فرعون ، وكلثوم أخت موسى عليه السلام .
ونحن نورد هنا ما ورد من ذلك ، مع مناقشتها من حيث القبول أو الرد :
الدليل الأول :
ما جاء في تفسير قوله تعالى : ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ
أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا )
التحريم/5
فقد روي عن بريدة رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قوله :
( وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه ، فالثيب : آسية امرأة
فرعون ، وبالأبكار : مريم بنت عمران )
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" – نقلا عن
تفسير ابن كثير (8/166) وإلا فلم
أقف عليه في المطبوع بين أيدينا من المعجم الكبير - قال : حدثنا أبو بكر بن صدقة ،
حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن أمية ، حدثنا عبد القدوس ، عن
صالح بن حَيَّان ، عن ابن بُرَيدة ، عن أبيه به .
وهذا إسناد ضعيف .
صالح بن حيان : جاء في ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/386) قول ابن معين فيه : ليس
بذاك ، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ، شيخ ، وقال النسائي : ليس بثقة . وقال ابن حبان
: يروى عن الثقات أشياء لا تشبه حديث الأثبات ، لا يعجبنى الاحتجاج به إذا انفرد .
كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :
( دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بمارية القبطية سريته ببيت حفصة بنت عمر ،
فوجدتها معه...- فذكر حديثا طويلا ، جاء في آخره - :
فوعده من الثيبات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وأخت نوح ، ومن الأبكار مريم بنت
عمران ، وأخت موسى عليهم السلام )
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3/13) قال :
حدثنا إبراهيم ، قال حدثنا هشام بن إبراهيم أبو الوليد المخزومي إمام مسجد صنعاء ،
قال أخبرنا موسى بن جعفر بن أبي كثير مولى الأنصار ، عن عمه ، عن أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة به .
ثم قال : " لا يروى هذا الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، تفرد به هشام بن
إبراهيم " انتهى
.
وهذا إسناد منكر .
موسى بن جعفر جاء في ترجمته في "لسان الميزان" (6/113) قول الذهبي : " لا يعرف
وخبره ساقط " انتهى. ثم قال الحافظ ابن حجر : " ولفظ العقيلي لما ذكره : مجهول
بالنقل ، لا يتابع على حديثه ، ولا يصح.
وأظن أن الذهبي حكم عليه بالبطلان لِما في آخره من الخطأ ، وأما قصة مارية فلها طرق
كثيرة تشعر بأن لها أصلا " انتهى.
وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" (8/216)
الدليل الثاني :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
( جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال : إن الله يقرئها
السلام ، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب ، بعيد من اللهب ، لا نَصَب فيه ولا صَخَب
، من لؤلؤة جوفاء ، بين بيت مريم بنت عمران ، وبيت آسية بنت مزاحم )
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/117)
قال : أخبرنا أبو المظفر بن القشيري ، وأبو القاسم زاهر بن طاهر ، قالا أنا محمد بن
عبد الرحمن ، أنا أبو سعيد محمد بن بشر بن العباس التميمي ، أنا أبو الوليد محمد بن
إدريس الشامي السرخسي ، نا سويد بن سعيد ، نا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك
ومجاهد، عن ابن عمر به .
وهذا إسناد منكر أيضا ، فيه عدة علل :
1- محمد بن صالح بن عمر، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/581): مجهول.
2- سويد بن سعيد الحدثاني: ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/275) وفيها تضعيف كثير من
أهل العلم له، وأنه كان يقبل التلقين.
3- أبو سعيد محمد بن بشر بن العباس (378هـ) : ترجم له الذهبي في "تاريخ الإسلام"
(26/633) وقال: شيخ صالح مسند.
الدليل الثالث :
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في
الموت فقال :
( يا خديجة ! إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام . فقالت : يا رسول الله ، وهل
تزوجت قبلي ؟ قال : لا ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ،
وكلثم أخت موسى )
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/118)
قال : أخبرنا أبو غالب محمد بن عمرو بن محمد الشيرازي بأصبهان ، أنا أبو عبد الله
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب المقرئ ، نا القاضي أبو بكر أحمد بن عبد
الرحمن بن أحمد البردي إملاء ، أنا أبو بكر هلال بن محمد بن محمد بالبصرة ، نا محمد
ابن زكريا الغلابي ، نا العباس بن بكار ، نا أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس به .
وهذا إسناد منكر أيضا .
أبو بكر الهذلي : ترجمته في "تهذيب التهذيب" (12/46) وفيها اتفاق المحدثين على
تضعيفه جدا ، وأنه أخباري متروك الحديث .
وقال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (8/166) : ضعيف أيضا .
الدليل الرابع :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة
فرعون . فقلت : هنيئًا لك يا رسول الله )
رواه أبو يعلى – ومن طريقه ابن عساكر في
"تاريخ دمشق" (70/118) - والطبراني في "المعجم الكبير" (8/258) ، والعقيلي في
"الضعفاء الكبير" (4/459) ، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (4/113) وأبو
نعيم في "أخبار أصبهان" (رقم/1460) ، وابن عدي في "الكامل" (7/180)
جميعهم من طريق :
عبد النور بن عبد الله ، حدثنا يونس بن شعيب ، عن أبي أمامة به .
وهذا إسناد موضوع .
عبد النور كذاب ، قال العقيلي : " كان غالياً في الرفض ، ويضع الحديث خبيثاً " وقال
الذهبي : " كذاب " انتهى. ويونس بن شعيب : قال فيه البخاري : "منكر الحديث" ، وقال
العقيلي : "حديثه غير محفوظ" ، وقال ابن حبان في "المجروحين" (3/139) : "لست أعرف
له من أبي أمامة سماعا ، على مناكير ما يرويه في قلتها ، كأنه كان المتعمد لذلك ،
لا يجوز الاحتجاج به بحال" . وانظر "لسان
الميزان" (6/332)
قال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (7053) : " وهذا إسناد موضوع "
انتهى.
الدليل الخامس :
عن عائشة رضي الله عنها قالت :
( دخل علي رسول الله مسرورا ، فقال : يا عائشة ! إن الله عز وجل زوجني مريم بنت
عمران ، وآسية بنت مزاحم في الجنة .
قالت : قلت : بالرفاء والبنين يا رسول الله )
رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"
(2/683-684/604-عجالة الراغب المتمني) والديلمي في "مسند الفردوس" (8620)
، قال ابن السني :
أخبرنا أحمد بن إبراهيم المديني بعمان ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، ثنا حفص بن غياث ،
عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد خير ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها به.
قال أبو بكر بن السني : كذا كتبته من كتابه .
وهذا إسناد ضعيف ؛ فيه تدليس أبي إسحاق السبيعي ، وهو من أهل المرتبة الثالثة من
المدلسين في تصنيف الحافظ ابن حجر ، فلا يقبل حديثه إلا إذا صرح بالتحديث ، كما لم
نقف على ترجمة لشيخ ابن السني : أحمد بن إبراهيم المديني .
الدليل السادس :
عن سعد بن جنادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( إن الله عز وجل قد زوجني في الجنة مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأخت موسى )
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (6/52) –
ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/118)
– قال الطبراني : حدثنا عبدالله بن ناجية ، ثنا محمد بن سعد العوفي ، ثنا أبي ، ثنا
عمي ، ثنا يونس بن نفيع ، عن سعد بن جنادة به .
وهذا إسناد ضعيف جدا .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/218) : " رواه الطبراني ، وفيه من لم أعرفهم "
انتهى.
وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (7053) : " فيه من يعرف بالضعف... محمد
بن سعد - هو: ابن محمد بن الحسن بن عطية -: قاضي بغداد ، وفيه لين ، وأبوه سعد مثل
يونس بن نفيع ؛ لم أجد لهما ترجمة . وعمه هو : الحسين بن الحسن بن عطية ؛ قال
الذهبي في " المغني " : " ضعفوه ". انتهى.
الدليل السابع :
عن ابن أبي رواد ، قال :
( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه ، فقال
لها : بالكره مني ما أرى منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا ، أما
علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة
فرعون ؟ قالت : وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم . قالت : بالرفاء
والبنين )
رواه الطبراني (22/451) ، ومن طريقه ابن
عساكر في "تاريخ دمشق" (70/119) وأبو نعيم الأصبهاني في "معجم الصحابة" (رقم/6738)
، ورواه ابن الجوزي في "المنتظم في التاريخ" (1/267/ ترجمة خديجة) من طريق ثنا
الزبير بن بكار ، حدثني محمد بن حسن ، عن يعلى بن المغيرة ، عن بن أبي رواد به .
وهذا سند منقطع معضل .
فإن ابن أبي رواد هو عبد العزيز بن عبد المجيد بن أبي رواد من كبار أتباع التابعين
، توفي سنة (159هـ) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/218) : " منقطع الإسناد ،
وفيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف "
انتهى.
والخلاصة أن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة منكرة ، لا يصح منها شيء ،
ولا تجوز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما لا يجوز الخوض بما جاء فيها ،
فذلك من الغيب الذي لم يطلعنا الله عليه ، ويجب أن نكل أمره إلى الله عز وجل .
يقول ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/75) بعد أن ساق مجموعة من أحاديث الباب :
" وكل من هذه الأحاديث في أسانيدها نظر "
انتهى.
والله أعلم .