محتار بين حفظ بلوغ المرام أو الجمع بين الصحيحين
أنا محتار ومتردد بين حفظ : " بلوغ المرام "، وبين حفظ : " الجمع بين الصحيحين " في العطلة القادمة في الصيف ، وأخشى أن أدخل دورة الصحيحين ثم لا أستطيع أن أواصل في الحفظ ، حيث إن المقرر حفظ (20) وجها يوميا .
فما مشورة إخواني طلاب العلم في الموقع ؟
الجواب
الحمد لله.
نصيحتنا لك ألا تتردد في دخول دورة حفظ الصحيحين ، وأن تقدمها على كل مشروع علمي
تشتغل به الآن ، فقد لمسنا فيها الخير الكبير ، والفائدة العظيمة ، والحق يقال :
إنها من نعم الله تعالى على طلبة العلم في هذه الأيام ، أن يجد الطالب – في مقتبل
الطلب - فرصةَ التفرغ لحفظ أهم مصدر من مصادر الشريعة بعد كتاب الله تعالى ، ويقضي
أيامه وأوقاته بين يدي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحفظ عباراته ، ويستظهر
أقواله وأفعاله وسيرته صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون ذلك في المسجد الحرام ، أو في
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
فأي نعمة أعظم من هذه النعمة !
وأي فرصة ينتظر طالب العلم كي يحقق إنجازا عظيما كحفظ الصحيحين ؟!
والله سبحانه وتعالى لا يخيب رجاء طالبٍ صادقٍ لجأ إليه سبحانه أن يعينه على الحفظ
والفهم ، وتوكل عليه سبحانه أن يسهل عليه كل عسير ، ثم جلس في الروضة الشريفة يرجو
أن يفتح الله عليه كما فتح على الإمام البخاري الذي كتب السنة والتراجم على ضوء
القمر في هذا المكان المبارك .
هل ترى أخي الكريم أن الطالب الذي امتلأ قلبه بحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمنى
أن لو رآه بنفسه وماله وولده ، واحتسب أن ييسر الله له بطلبه العلم سبيل الجنة مع
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، هل ترى مثل هذا الطالب يخيب سعيه ، ولا
يرجع بالعلم والأجر والفضل ، أم تراه وقع فيما سيندم عليه ، ويراه – في مستقبل
الأيام – مشغلة ومضيعة؟!
وقد سمعنا عن بعض أهل العلم المعاصرين من كاد قلبه يتفطر ألما أن فرصة مثل هذه
فاتته في بداية طلبه ، فلا تُفَوِّت أنت الفرصة ، وبادر إلى الخير ، واستعن بالله
عز وجل .
أما حيرتك بين حفظ " الجمع بين الصحيحين " ، وحفظ " بلوغ المرام " : فنحن نميل إلى
أن حفظ الأول أولى وأفضل من نواحٍ عديدة :
أولا : حفظ واستظهار أحاديث الصحيحين يعني استيعاب – ولو بقدر ما – المصدر الثاني
من مصادر التشريع ، وهي السنة التي عليها مدار الدين والشريعة ، وذلك يخلق في نفس
الطالب قوة علمية تأصيلية متينة .
ثانيا : في حفظ " الجمع بين الصحيحين " أولا تدرج منهجي في حفظ السنة النبوية ،
فالبداية في الأحاديث المتفق عليها ، ثم مفردات البخاري ، ثم مفردات مسلم ، ثم
يستكمل الطالب زوائد السنن والمسانيد على الصحيحين ، وهكذا حتى يستكمل حفظ مجمل
السنة النبوية ، ولا شك أن التدرج في الحفظ ينظم عقلية الطالب ، ويرفع همته وهو
يستشعر إنجاز مراحل الحفظ مرحلة بعد أخرى .
ثالثا : البداية بحفظ " الجمع بين الصحيحين " تسهل على الطالب معرفة مخرج الحديث
ومصدره ، أما البداية بكتب أحاديث الأحكام المنتقاة من كتب السنة كثيرا ما تؤدي إلى
اختلاط مصادر الأحاديث في ذهن الطالب ، فلا يكاد يستحضر من أخرج الحديث من أصحاب
الكتب الستة .
رابعا : استحضار أحاديث الصحيحين يخلق في نفس الطالب دافعا قويا لاستكمال حفظ كتب
السنة ، فقد لمس فعليا إمكانية استظهار أحاديث أعظم كتابين من كتب السنة ، فلا يرى
حائلا يحول دون استكمال زوائد السنن إلا الوقت ، وهذا حافز مهم جدا في النجاح
والإبداع .
خامسا : مَن حفظ " الجمع بين الصحيحين " فهو أقدر على استكمال واستظهار أحاديث
الأحكام من كتبها : كـ " المنتقى "، و " المحرر "، و " بلوغ المرام "، فإن هذه
الكتب اقتصرت فقط على أحاديث الأحكام ، أما الصحيحان فهما يشملان الأحاديث في أبواب
الدين جميعها .
أما خشيتك من الضعف أو العجز عن اجتياز الدورة وإتمام النصاب المطلوب من الحفظ ،
فيمكننا أن نقدم لك فيه نصيحتين لعل فيهما إزالة هذه الخشية :
أما النصيحة الأولى : فهي أن تتذكر أن العقل البشري بحاجة إلى تدريب وتدرج في الحفظ
، تماما كما يتدرب الرياضي بعضلات جسمه لتعتاد على بذل المجهود البدني الكبير ،
ولذلك قد تجد صعوبة على الحفظ في بداية أسابيع الدورة ، ولكنك ستجد نفسك شيئا فشيئا
أقدر على الحفظ والتسميع .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
" أي عضو كثرت رياضته قوي ، وخصوصا على نوع تلك الرياضة ، بل كل قوة فهذا شأنها ،
فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ،
ولكل عضو رياضة تخصه " انتهى.
"زاد المعاد" (4/225)
وهذا أمر مجرب مشاهد ، فلا تستجب لتثبيط الشيطان لك ، فليس جميع من يشترك في دورات
الحفظ هم من النوابغ العباقرة ، ولست أقل شأنا من أي مشترك ، وقد شاهدنا وسمعنا
وقرأنا عن صغار لم يبلغوا الحلم أتموا الحفظ المتقن لهذه الكتب المباركة ، كما
شاهدنا من الكبار الذي تجاوزوا الخمسين من استطاع أن يحفظها أيضا ، كل ذلك بفضل
الله أولا ، ثم بفضل العزيمة والتوكل على الله عز وجل .
أما النصيحة الثانية : فهي أن تحافظ على برنامج يومي لمراجعة ومذاكرة المحفوظ أثناء
الدورة وبعدها ، وتيقن أن برنامج المراجعة أهم وأولى وأعظم شأنا بكثير من برنامج
الحفظ ، لأن الحفظ لا يثبت إلا بالمذاكرة والمراجعة والتكرار ، وهذا يحتاج إلى أيام
طويلة ، فاحتفظ بقدر – ولو يسير – بالمراجعة ، وإلا فلا تدخل طريق الحفظ ، فهو طريق
لا يفلح فيه إلا من حافظ على نصاب يومي في المراجعة .
يقول الإمام الزهري رحمه الله :
" إنما يُذهِبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (3/63)
ولعل من أفضل الطرق التي نرشدك إليها في هذا الصدد ، ما ذكره الزرنوجي - في رسالته
" تعليم المتعلم طريق التعلم " (ص/41- 42) - وجربه كثير من طلبة العلم ونفعهم الله
بها ، وهي طريقة تجمع بين النفع والسهولة ، حيث يقول رحمه الله :
" وينبغي لطالب العلم أن يكرر سَبْق - يعني : المقدار الذي يحفظه - الأمس خمس مرات
، وسبق اليوم الذي قبل الأمس أربع مرات ، والسبق الذي قبله ثلاث مرات ، والذي قبله
اثنين ، والذي قبله مرة واحدة ، فهذا أدعى إلى الحفظ " انتهى.
وأخيرا ، فالحفظ كله خير إن شاء الله تعالى ، والأهم منه المذاكرة المستمرة ،
والفهم الصحيح ، والعمل بما علم ، وتقوى الله تعالى سبب التوفيق والنجاح .
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأوَّلُ ما يجني عليه اجتهادُه.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما :
" إنما يحفظُ الرجلُ على قدر نيته " انتهى.
"الجامع لأخلاق الراوي" (2/257)
وانظر نصائح مهمة ذكرها الخطيب البغدادي في العون على الحفظ ، في " الجامع لأخلاق
الراوي" (2/249-279)
والله أعلم .