أتساءل : ما هي الأمور المطلوبة من الأربعة الشهود في المحاكمة المقامة في محكمة إسلامية ؟ وما المقصود من هذه المتطلبات ؟
الحمد لله.
الشهادة في الفقه الإسلامي إحدى بينات الإثبات ، ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم
في مواضع عدة ، وأثبت الحكم بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولها في كتب
الفقه حظ وافر من الشرح والتفصيل والبيان .
والذي نحب التنبيه عليه في هذا الباب – مما يتعلق بالسؤال – أمور ثلاثة :
الأمر الأول :
أن نصاب الشهود المطلوب يختلف بحسب الأمر المشهود به ، وليس ثمة عدد محدد لجميع
أنواع الشهادة ، فمن الأمور ما تقبل فيها شهادة عدل واحد ، ومنها ما يشترط لها
شاهدان ، ومنها ما يشترط لها أربعة شهود . ولا شك أن هذا من كمال التشريع الإسلامي
وحكمته البالغة ، حيث روعيت فيه أقدار المواضيع من حيث الأهمية والخطورة والتأثير ،
ووضعت لها ما يناسبها في أبواب الشهادة ونصاب الشهود .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (26/226-229) :
" يختلف عدد الشهود في الشهادات بحسب الموضوع المشهود به :
أ - من الشهادات ما لا يقبل فيه أقل من أربعة رجال ، لا امرأة بينهم ، وذلك في
الزنا ، لقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء . . )
الآية. وعن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال : يا رسول الله ! إن وجدت مع امرأتي رجلا
أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : نعم . رواه مسلم.
ب - ومنها ما يقبل فيه شاهدان لا امرأة فيهما ، وهو ما سوى الزنى من الحدود والقصاص
، كالقطع في السرقة ، وحد الحرابة ، والجلد في الخمر ، وهذا باتفاق الفقهاء .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن ما يطلع عليه الرجال غالبا ، مما ليس بمال ولا يقصد منه
مال: كالنكاح ، والطلاق ، والرجعة ، والإيلاء ، والظهار ، والنسب ، والإسلام ،
والردة ، والجرح ، والتعديل ، والموت والإعسار ، والوكالة ، والوصاية ، والشهادة
على الشهادة ، ونحو ذلك ، فإنه يثبت عندهم بشهادة شاهدين لا امرأة فيهما . ودليلهم
في ذلك أن الله تعالى نص على شهادة الرجلين في الطلاق والرجعة والوصية .فأما الطلاق
والرجعة فقوله تعالى : (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم )
. وأما الوصية فقوله : ( إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ) .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النكاح : ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )
أخرجه البيهقي. وروى مالك عن الزهري أنه قال : " مضت السنة
بأنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح والطلاق " وقيس عليها ما شاركها
في الشرط المذكور .
ج - وقال الحنفية : ما يقبل فيه شاهدان ، أو شاهد وامرأتان هو ما سوى الحدود
والقصاص سواء أكان الحق مالا أم غير مال ، كالنكاح والطلاق والعتاق والوكالة
والوصاية . ودليله قوله تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء )
وقصر الجمهور قبول شهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين على ما هو مال أو بمعنى المال
، كالبيع ، والإقالة ، والحوالة ، والضمان ، والحقوق المالية ، كالخيار ، والأجل ،
وغير ذلك .
د - ومنها ما تقبل فيه شهادة النساء منفردات ، وهو الولادة والاستهلال والرضاع ،
وما لا يجوز أن يطلع عليه الرجال الأجانب من العيوب المستورة .
ولكنهم اختلفوا في العدد الذي تثبت به هذه الأمور من النساء على خمسة أقوال .
و - ومنها ما تقبل فيه شهادة شاهد واحد ، فتقبل شهادة الشاهد الواحد العدل بمفرده
في إثبات رؤية هلال رمضان استدلالا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : تراءى
الناس الهلال ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه
. رواه أبوداود. " انتهى باختصار.
الأمر الثاني :
أن شهادة الأربعة على وقوع الزنى يشترط فيه – زيادة على الإسلام والحرية والعدالة –
الوصف بالمعاينة وصفا دقيقا ، ولا يكفي وصف المشهد العام لاجتماع الرجل والمرأة
الأجنبية ولو كانا عاريين ، وهذا من خصائص هذه الشهادة أيضا .
يقول ابن رشد رحمه الله :
" وأما ثبوت الزنا بالشهود : فإن العلماء اتفقوا على أنه يثبت الزنا بالشهود ، وأن
العدد المشترط في الشهود أربعة بخلاف سائر الحقوق ، لقوله تعالى : ( ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء ) وأن من صفتهم أن يكونوا عدولا ، وأن من شرط هذه الشهادة أن تكون
بمعاينة فرجه في فرجها ، وأنها تكون بالتصريح لا بالكناية " انتهى.
"بداية المجتهد" (2/439).
يقول الإمام الماوردي رحمه الله :
" أما صفة الشهادة في الزنا فلا يجزئ أن يقول الشهود : رأيناه يزني . حتى يصفوا ما
شاهدوه من الزنا ، وهو أن يقولوا : رأينا ذكره يدخل في فرجها كدخول المرود في
المكحلة : لثلاثة أمور :
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم تثبت ماعزا في إقراره فقال : أدخلت ذلك منك في
ذلك منها ، كدخول المرود في المكحلة والرشا في البئر ؟ فقال : نعم . فأمر برجمه .
فلما استثبته في الإقرار كان أولى أن يستثبت في الشهادة .
والثاني : أن الشهود على المغيرة بن شعبة بالزنا لما شهدوا به عند عمر رضي الله عنه
، وهم أبو بكرة ، ونافع ، ونفيع ، وزياد ، فصرح بذلك أبو بكرة ، ونافع ، ونفيع ،
فأما زياد فقال له عمر : قل ما عندك ، وأرجو أن لا يهتك الله صحابيا على لسانك .
فقال زياد : رأيت نفسا تعلو ، أو استا تنبو ، ورأيت رجليها على عنقه كأنهما أذنا
حمار ، ولا أدري يا أمير المؤمنين ما وراء ذلك ، فقال عمر : الله أكبر . فأسقط
الشهادة ولم يرها تامة .
ولمعرفة براءة المغيرة بن شعبة من هذه
التهمة انظر جواب السؤال رقم
120030
والثالث : أن الزنا لفظ مشترك . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
العينان تزنيان وزناهما النظر ، واليدان تزنيان وزناهما اللمس ، ويصدق ذلك ويكذبه
الفرج .
فلذلك لزم في الشهادة نفي هذا الاحتمال بذكر ما شاهده من ولوج الفرج في الفرج "
انتهى.
"الحاوي" (13/227).
الأمر الثالث :
أن تخصيص الشهادة على الزنا بهذا التشديد فيه مزيد احتياط وصيانة للأعراض ، كي لا
يتساهل الناس في الطعن ولا في القذف .
وباشتراط البينة بهذا التدقيق لا يكاد حد الزنى يقام على أحد إن لم يعترف ، ومن
أقيم عليه بسبب مشاهدة أربعة رجال له هذه المشاهدة الدقيقة فذلك دليل على جرأة
ووقاحة يستحق عليها العقوبة الرادعة .
يقول الإمام الماوردي رحمه الله :
" الشهادات تتغلظ بتغليظ المشهود فيه ، فلما كان الزنا واللواط من أغلظ الفواحش
المحظورة وآخرها ، كانت الشهادة فيه أغلظ : ليكون أستر للمحارم ، وأنفى للمعرة "
انتهى.
"الحاوي" (13/226) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" والشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حد وما أعرف حدا أقيم بها وإنما تقام الحدود
إما باعتراف وإما بحبل .." .
"منهاج السنة النبوية" (6/95) .
والله أعلم .