الحمد لله.
الصحابي الجليل " المغيرة بن شعبة " هو أحد أصحاب " بيعة الرضوان " الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، والذين أثنى الله عليهم بالخير ، وأخبر أنه رضي عنهم ، قال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً . وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا . وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) الفتح/18 ، 19 .
قال ابن كثير – رحمه الله - :
" يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم ، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض " الحديبية " .
وقوله : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي : من الصدق ، والوفاء ، والسمع ، والطاعة .
( فَأَنزلَ السَّكِينَةَ ) : وهي الطمأنينة ، ( عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر ، وفتح مكة ، ثم فتح سائر البلاد ، والأقاليم عليهم ، وما حصل لهم من العز ، والنصر ، والرفعة في الدنيا ، والآخرة ، ولهذا قال : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) " انتهى .
" تفسير ابن كثير " (7/339 ، 340 ) .
وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد لهم بالخيرية ، وأخبر أنهم من أهل الجنة :
أ. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : ( أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ) رواه البخاري ( 2923 ) ومسلم ( 1856 ) .
قال
الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " هذا صريح في فضل " أصحاب الشجرة " ، فقد كان من
المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكة ، وبالمدينة ، وبغيرهما " انتهى .
" فتح الباري " ( 7 / 443 ) .
ب. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَذَبْتَ ، لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ) رواه مسلم ( 2495 ) .
ج. عن
جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال : أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ
أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ
حَفْصَةَ : ( لَا يَدْخُلُ النَّارَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِ
الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا . قَالَتْ : بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، فَانْتَهَرَهَا ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وَارِدُهَا ) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا )
رواه
مسلم ( 2496 ) .
قال النووي – رحمه الله - : " قال العلماء : معناه : لا يدخلها أحدٌ منهم قطعاً ،
كما صرح به في الحديث الذي قبله - حديث حاطب - وإنما قال : ( إن شاء الله ) للتبرك
لا للشك ، وأما قول حفصة بلى ، وانتهار النبي صلى الله عليه و سلم لها ... فيه دليل
للمناظرة ، والاعتراض والجواب ، على وجه الاسترشاد ، وهو مقصود حفصة ؛ لا أنها
أرادت رد مقالته صلى الله عليه و سلم .
والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط ، وهو جسر منصوب على جهنم
فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون " انتهى .
" شرح مسلم " ( 16 / 58 ) .
وقد
أسلم " المغيرة بن شعبة " رضي الله عنه عام الخندق ، وأول مشاهده : الحديبية ، ثم
شهد اليمامة ، وفتوح الشام
،
والقادسية ، ونهاوند ، وهمدان ، وغيرها .
قال عنه الحافظ الذهبي – رحمه الله - : " من كبار الصحابة ، أولي الشجاعة والمكيدة ، شهد بيعة الرضوان ، كان رجلا طِوالاً ، مهيبا ، ذهبت عينه يوم اليرموك ، وقيل : يوم القادسية " انتهى .
"سير
أعلام النبلاء" (3/21) .
وما جاء في روايات عدة من شهادةٍ عليه رضي الله عنه بالزنا : لم يثبت نصاب الشهادة
فيها ، ولا يمكن لأحدٍ أن يتهمه رضي الله عنه بتلك الفاحشة البغيضة من غير اعتراف ،
أو شهادة أربعة رجال ، وكلا الأمرين معدوم ، وقد جلد عمر رضي الله عنه الثلاثة
الذين اتهموه بالزنا ؛ لعدم اكتمال نصاب الشهادة ، بعد تردد الرابع ، وعدم شهادته ،
ولم يصنع شيئاً مع المغيرة لعدم ثبوت أصل الواقعة شرعاً .
وأما بخصوص المروي في وصف فعله رضي الله مع تلك المرأة : فالجواب عنه من وجوه :
1. سقوط ذلك كله شرعاً ، وعدم ثبوت شيء منه ؛ لتخلف نصاب الشهادة .
2. أن كثيراً من تلك الروايات لم تصح أصلاً من حيث إسنادها .
3. أن
ذلك الأمر الذي حصل – إن جزمنا بحصوله واقعاً ، وهو ما سبب إشكالاً عند كثيرين – لم
يكن مع امرأة أجنبية ، بل كان مع زوجةٍ من نسائه تشبه تلك التي ادُّعي عليها فعل
الفاحشة مع ذلك الصحابي الجليل.
قال
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - : " يظهر لنا في هذه القصة أن المرأة
التي رأوا المغيرة رضي الله عنه مخالطاً لها عندما فتحت الريح الباب عنهما : هي
زوجته ، ولا يعرفونها ، وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على
المغيرة وغيره من الأمراء ، فظنوا أنها هي ، فهم لم يقصدوا باطلاً ، ولكن ظنهم أخطأ
، وهو لم يقترف - إن شاء الله - فاحشة ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعظم فيهم الوازع الديني الزاجر عما لا ينبغي في أغلب الأحوال ، والعلم عند الله
تعالى " انتهى .
"مذكرة في أصول الفقه" (ص 152) .
4. وأمر آخر يخص الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة ، وهو أنه كثير الزواج ، فأي حاجة ليفعل الحرام ، وهو يجد من الحلال الكثير ؟! .
قال الذهبي – رحمه الله - : " عن المغيرة بن شعبة قال : لقد تزوجت سبعين امرأة ، أو أكثر .
أبو إسحاق الطالقاني : حدثنا ابن المبارك قال : كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة ، قال : فصفهن بين يديه ، وقال : أنتن حسَنات الأخلاق ، طويلات الأعناق ، ولكني رجل مطلاق ، فأنتن الطلاق .
ابن
وهب : حدثنا مالك قال : كان المغيرة نكَّاحا للنساء ، ويقول : صاحب الواحدة إن مرضت
مرض ، وإن حاضت حاض ، وصاحب المرأتين بين نارين تشعلان ، وكان ينكح أربعا جميعاً ،
ويطلقهن جميعاً " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " ( 3 / 31 ) .
5.
ومعروف غيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على حرمات الله ، وقوته في دينه ، ومعروف
ـ أيضا ـ تشدده مع ولاته ، وقد ولَّى المغيرةَ بعد تلك الحادثة إمرة " الكوفة " !
ولو أنه ثبت عنده شبهة تلك المعصية فلعله لا يوليه ولاية قط ، وهذا يعني اقتناع عمر
بعدم حصول تلك الواقعة أصلاً ، أو اقتناعه بأنها كانت زوجته ، ولعل الثاني هذا هو
الأقرب .
وبما قلناه يسقط السؤال من أصله ، وليس ثمة حاجة للبحث في حكم فعله رضي الله عنه ؛
لأن ذلك السؤال مبني على كون تلك المرأة أجنبية .
ثانياً:
أما من حيث الحكم الشرعي ابتداءً : فإن مقدمات الزنى من الفواحش ، وقد سمَّاها الشرع " زنى " ، لكن الزنى الذي تترتب عليه الأحكام ، ويوجب الحدود : هو زنى الفرج ، لا زنى الأعضاء الأخرى .
وقد روى البخاري ( 6243 ) ومسلم ( 2657 ) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيُكَذِّبُهُ ) .
وقد نهى الله تعالى عن مقدمات الزنى ، فقال : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) الإسراء/32 ، وقال : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) الأنعام/151 .
وللحاكم إن ثبت عنده فعل أحد من المسلمين مثل تلك المقدمات أن يعزره بما يراه مناسباً لحاله ، وفعله ، فليس في تلك الأفعال حدود ، بل فيها التعزير .
وينظر النقل في ذلك عن الأئمة ، مع شيء من التفصيل في أصل المسألة : جواب السؤال رقم : ( 27259 ) .
والله أعلم