الحمد لله.
نشكر لك في البداية همتك العالية ، وطموحك نحو تحقيق ما تحلمين به ، ونذكرك مع ذلك بأمور عدة :
الأمر الأول : ضرورة الأخذ بالأسباب ، فقد خلق الله الدنيا بنظام السبب والمسبب ، وأوجب على الناس العمل في هذه الدنيا ضمن هذا النظام ، فمن ألغى الأسباب فقد تعدى على شرع الله وقدره .
الأمر الثاني : الإلحاح في الدعاء مما يحبه الله ويرضاه ، وليس فيه اعتراض على القدر ، بل هو إصرار على بلوغ المراد ضمن الأسباب المشروعة ، والدعاء أحد هذه الأسباب ، فهو من قضاء الله وقدره ، وهو علامة العبودية ، وأمارة الإيمان .
قال
ابن القيم : "
ومن أنفع الأدوية : الإلحاح في الدعاء " انتهى .
" الجواب الكافي " (ص/25)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ : يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ) رواه البخاري (6340) ومسلم (2735)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء , وهو أنه يلازم الطلب ، ولا ييأس من الإجابة ؛ لما في ذلك من الانقياد ، والاستسلام ، وإظهار الافتقار , حتى قال بعض السلف : لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة . وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه : ( من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ) ، الحديث أخرجه الترمذي بسند لين ، وصححه الحاكم فوهم .
قال الداودي : يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة ، وما
قام مقامها من الادخار والتكفير انتهى ... وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله : اعلم
أن دعاء المؤمن لا يرد ، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة ، أو يعوض بما هو
أولى له عاجلا أو آجلا ، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه ، فإنه متعبد
بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض " انتهى .
" فتح الباري " (11/141)
.
الأمر الثالث ، وهو الأهم فيما نريد تنبيهك إليه :
إذا كان ما تدعين به من أمور الدنيا الفانية ، ومما قد يبتلى به الإنسان في حياته بفقد ، أو مرض أو فقر ونحو ذلك ، فلا نرى لك الحلم به كثيرا ، ولا التعلق القلبي العظيم بتحقيقه ، فقد خلق الله الدنيا ناقصة اللذات ، لا تصفو لأحد ، فلا تظني في قلبك أنها تصفو لك ، ولو بكثرة الدعاء ، وهذه لفتة دقيقة أشار إليها العلامة ابن الجوزي رحمه الله ، كي يستريح من يدعو ولا يستجاب له ، وكي لا يقع المسلم في التسخط في آخر المطاف ، بل يرضى بالقضاء ، ويحتسب أجره عند الله ، ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
" من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف ، فإنه موضوع على عكس الأغراض ، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض ، فإن دعا وسأل بلوغ غرض ، تعبد الله بالدعاء : فإن أعطي مراده ، شكر ، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب ؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض ، وليقل لنفسه : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/216 ، ومن أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه ، وربما اعترض في الباطن ، أو ربما قال : حصول غرضي لا يضر ، ودعائي لم يستجب ، وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة ، ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر ؟! هذا آدم ، طاب عيشه في الجنة ، وأخرج منها ، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده ، والخليل ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفقد الولد ، ويوسف بمجاهدة الهوى ، وأيوب بالبلاء ، وداود وسليمان بالفتنة ، وجميع الأنبياء على هذا ، وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم ، فالدنيا وضعت للبلاء ، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر ، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف ، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا ، كما قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذاء والأكدَارِ " انتهى.
" صيد الخاطر " (ص/399) .
الأمر الرابع :
لا تعولي كثيرا على الرؤى والأحلام ، فهي ظنية الدلالة ، لا يعتمد في تأويلها على ما في الكتب ، ولا يقبل تأويلها من عابر غير عالم ولا بصير ، فكيف تبنين عليها قرارا وتتوقفين بسببها عن سعي ونجاح ، بل ننصحك بالتوكل على الله ، والإلحاح في الدعاء إذا كان في الأمر خير .
والخلاصة : أن هذا الأمر الذي تحلمين به : إن كان مما يقربك من رضوان ربك وجنته ، ويباعدك من سخطه وناره : فلا تتركي الإلحاح في الدعاء به ، مع الأخذ بما تطيقينه من الأسباب لبلوغه ، وإن كان عرضا من الدنيا ، من رزق ، أو مال ، أو إنسان معين ، تريدين الزواج منه : فلا نرى لك أن تتعلقي به كل هذا التعلق ، سنين طوالا ؛ بل فوضي أمرك إلى الله ، وانشغلي بما ينفعك ، واسأليه أن يقدر لك الخير في أمرك كله .
وانظري جواب الأسئلة التالية : (93399) ، (115945) ، (117665) .
والله أعلم