الحمد لله.
يحسن التعرف على بعض أحكام الحجر في الشريعة الإسلامية ثم نتعرض لما ذكر في السؤال .
فالإِْفْلاَسُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ : أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الشَّخْصِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ .
فإذا كان المدين كذلك ، وكانت الديون حالَّة (غير مؤجلة) وطلب الغرماء (الدائنون) من الحاكم أن يحجر عليه ، وجب على الحاكم أن يحجر على أمواله ، ويمنعه من التصرف فيها ، ويترتب على هذا الحجر أحكام :
1- منع المدين من التصرف في ماله .
2- تعلق حق الغرماء بهذا المال .
3- من وجد من الغرماء عين ماله عند المفلس فهو أحق به من غيره من الغرماء ، كما لو كان أعطاه قرضاً ، أو باعه سلعة بالتقسيط ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) رواه البخاري (2402) ومسلم (1559) .
4- أن للحاكم أن يبيع ماله ويعطي للغرماء حقوقهم .
ودليل ذلك : أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان عليه ديون ، فكلم غرماؤه الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فحجر عليه وباع ماله . رواه البيهقي والحاكم ، وهو حديث مختلف فيه ، صححه ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (2/48) ، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (1435) .
ويُترك للمفلس من ماله : ما يحتاج إليه ولا يستغني عنه مثل : الثياب ، والكتب ، والبيت الذي يسكنه ، وآلات الصنعة ، والقوت الضروري ، ورأس مال التجارة .... إلخ
ويؤخذ الزائد عن حاجته من هذه الأشياء ، ويترك له ما يكفيه بلا زيادة .
وذهب بعض العلماء (الإمامان مالك والشافعي) إلى أنه إذا كان يقيم في بيت يملكه فإنه يؤخذ منه ويُباع ، ويُستأجر له بيت يسكنه .
وإذا باع الحاكم ماله فإنه لا يقسمه على الغرماء بالتساوي ، وإنما على نسبة ديونهم ، فلو كان أحدهما له ألف والآخر له خمسمائة ، فيقسم المال بينهما : لصاحب الألف : الثلثان ، ولصاحب الخمسمائة : الثلث .
قال الحافظ في الفتح :
" َذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ ظَهْر فَلَسُهُ فَعَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْر عَلَيْهِ فِي مَالِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ عَلَيْهِ وَيَقْسِمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ " انتهى .
وهذا ؛ إذا لم يكف المال جميع الديون ، فإن كفى أخذ كل دائن حقه بلا زيادة ، ثم رُدَّ الباقي ـ إن بقي شيء ـ إلى المفلس ، لأنه حقه .
فإذا كان ماله لا يكفي الديون كلها ، فإنه يوزع الموجود على الدائنين ، وتبقى سائر حقوقهم دَيْناً عليه ، متى قدر أن يقضيها وجب عليه ذلك .
انظر : "المغني" (4/265-266) – "المجموع" (13/278-284) (طبعة دار الفكر) – "المبسوط" (24/156-166)– "فتح الباري" (5/66) (دار المعرفة - بيروت ، 1379) - "الموسوعة الفقهية" (5/246 ، 301 - 322) – "الشرح الممتع" (9/78-81) .
وعلى هذا ، فقول السائل : هل يكون واجباً على المدين المسلم سداد الدين أو الرصيد الذي لم تتمكن المحكمة من سداده ؟
فالجواب : نعم ، ويبقى ديناً عليه في ذمته حتى يتمكن من سداده .
قال ابن قدامه رحمه الله في "المغني" (6/581) :
"وإذا فُرِّق مال المفلس وبقيت عليه بقية وله صنعة فهل يجبره الحاكم على إيجار نفسه ليقضي دينه؟ على روايتين ...." انتهى . ثم ذكر القولين بأدلتهما ، ولم يصرح بالراجح منهما ، غير أنه يظهر من كلامه أنه يميل إلى القول بأن الحاكم يجبره على العمل ليقضي دينه .
فعلى كلا القولين : يستفاد من هذا : أن باقي حق الغرماء لا يزال متعلقاُ بذمته .
ثم قال ابن قدامة (6/582) :
"وإن فُكَّ الحجر عليه [يعني : بعد بيع ماله] لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته حتى يملك مالاً ...." انتهى .
فيستفاد منه أيضاً : أن ما بقي من حق الغرماء لم يسقط ، بل لا يزال دَيناً عليه .
وقول السائل : حتى ولو كانت الأصول والممتلكات التي تم أخذها لسداد الديون عبارة عن متجر أو سوق وقيمته أعلى مما تم الحصول عليه من المزاد ؟
فالجواب :
أن الواجب على الحاكم ألا يبيع ممتلكات المفلس إلا بثمن المثل ، فلا يبيعها بأقل من ذلك .
انظر : "الموسوعة الفقهية" (5/318) .
ولما كانت هذه القضية منظورة في بلاد غير إسلامية ، فمن الطبيعي أن يكون لهم قوانينهم وأنظمتهم التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها ، وتكون مخالفة لما شرعه الله عز وجل .
ولهذا ؛ لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في الإقامة في تلك البلاد ، إلا أن يكون مضطراً لذلك ، لأنه سيخضع لتلك القوانين ، شاء أم أبى .
تنبيه :
المديونية الربوية لا يجوز القيام بسدادها ، فليس عليه إلا دفع رأس المال فقط ، إلا إذا أُكره على دفعها وهُدِّد بالسجن ونحوه فلا حرج عليه ، ويكون مكرهاً ، مع وجوب التوبة إلى الله من الاقتراض بالربا .
والله أعلم