الحمد لله.
أولاً :
هذا التعبير يستعمله علماء الحديث الشريف ، يريدون به بيان أمر مهم في علوم الحديث ، وهو وجود المتابعات والشواهد للحديث المعين ، إذ من المعلوم أن أصحاب الكتب الستة والمسانيد إنما يوردون الأحاديث مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أن الإمام البخاري مثلا يروي الحديث عن شيخه الذي أخذ عنه ، وذلك الشيخ يروي الحديث عن شيخه .. ، وهكذا حتى تصل السلسلة إلى الصحابي الذي سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم .
مثال ذلك :
قال الإمام البخاري رحمه الله في "الجامع الصحيح" ، حديث رقم : (552) :
حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ).
وهذا الإسناد – كما ترى – مهم جدا في معرفة ثبوت الحديث من عدمه ، فالعلماء يبحثون في سيرة رجال الإسناد ، ودرجة ضبطهم وحفظهم للحديث ، فإذا وجدوا أنهم من الثقات الحفاظ حكموا على الحديث بالصحة والقبول .
ثم إذا وجدوا أن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قد رواه إمام آخر عن الصحابي نفسه ، ولكن بإسناد آخر ، قالوا : هذا الإسناد متابع للإسناد الأول ، أو قالوا : إن للحديث طرقاً عدة .
وهذا الحديث الذي مثلنا به ، رواه الإمام مسلم رحمه الله من حديث ابن عمر (626) ، ولكن بإسناد مختلف عن إسناد الإمام البخاري ، فقال رحمه الله :
حدثني هارون بن سعيد الأيلي ، قال حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله عن أبيه – يعني ابن عمر – : إلى آخر الحديث .
فإسناد الحديث عند الإمام مسلم يسميه العلماء طريقا آخر ، وذلك لأن الصحابي واحد في الحديثين ، وهو ابن عمر رضي الله عنهما ، وإنما رواه عنه تلميذ آخر من تلاميذه .
أما إذا روى واحد من الأئمة هذا الحديث عن صحابي آخر غير ابن عمر ، فهذا يسميه المحدثون بـ " الشاهد "، فيقولون : للحديث شواهد أخرى .
وفي المثال السابق نجد أن الإمام النسائي روى الحديث في "السنن" (478) عن الصحابي الجليل نوفل بن معاوية رضي الله عنه .
فقال : أخبرنا سويد بن نصر ، قال أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، قال أنبأنا جعفر بن ربيعة ، أن عراك بن مالك حدثه ، أن نوفل بن معاوية حدثه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ).
فحديث نوفل بن معاوية هذا يسمى " شاهدا " لحديث ابن عمر السابق ، والعكس أيضا ، حديث ابن عمر يسمى " شاهدا " لحديث نوفل بن معاوية ، رضي الله عن الجميع .
وبهذا نفهم معنى قول العلماء : " للحديث شواهد وطرق كثيرة ".
فالشاهد : أن يروي الحديث عن صحابي آخر .
والطريق : أن يروي عن الصحابي نفسه ولكن بسند مختلف عن السند الأول .
ثانياً :
يبقى السؤال : ماذا نستفيد من هذه الطرق والشواهد للأحاديث ؟
فالجواب : يستفاد منها فوائد كثيرة ، منها :
1- معرفة الأخطاء التي قد تقع من بعض الرواة ، وقد قال علي بن المديني رحمه الله : "الباب إذا لم تُجمَع طُرُقُه لم يَتَبَيَّن خطؤه" انتهى . رواه الخطيب البغدادي في "الجامع" (2/212) .
2- زيادة الاطمئنان إلى صحة الحديث وثبوته ، فالقلب يطمئن إلى صحة الخبر الذي جاء من طريقين أكثر من اطمئنانه للخبر الوارد من طريق واحد .
3- قد يأتي الحديث بسند ضعيف ، ولكن تتعدد طرقه وشواهده ، فيرتقي بهذا إلى درجة القبول ، ويكون حديثاً مقبولاً ، وهذا ما يسميه العلماء : تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات ، وهو باب عظيم من أبواب علوم الحديث له شروطه وضوابطه الدقيقة التي يجب الالتزام بها .
قال السخاوي رحمه الله :
"قال النووي رحمه الله في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضها بعضاً ، ويصير الحديث حسناً ، ويحتج به ، وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة ، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه ، فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله ، بأن يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه ، أو عضده اتصال عمل ، أو موافقة شاهد صحيح ، أو ظاهر القرآن ، واستحسنه شيخنا - يعني ابن حجر - وأشار إلى أنَّ مذهب ابن دقيق العيد التوقف" انتهى .
"فتح المغيث" (1/69) .
نرجو أن نكون قد وفقنا لبيان ما سأل عنه السائل بعبارة واضحة سهلة .
والله أعلم .