الحمد لله.
إذا كانت قريبتك قد تابت والحمد لله ، فلا يلزمها أن تخبر خاطبها بالأمر ، فكان ينبغي أن تستتر بستر الله تعالى ، ولا يلزمها إخباره ، حتى ولو سألها ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم (83093) .
وحيث إنها أخبرته ، ووافق على الزواج بها مع علمه أنها ليست بكرا ، فلا حرج على الولي أن يقول : زوجتك ابنتي البكر الرشيد الخ ، فهذا وإن كذبا من الولي إلا أنه يترتب عليه مصلحة عظيمة وهي الستر ، ولا ينشأ عنه ضرر على أحد ، فيجوز لهذا الاعتبار .
وقد جاءت الرخصة في الكذب في ثلاثة مواضع ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي (1939) وأبو داود (4921) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ) . والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي .
وهو محمول عند جماعة من أهل العلم على الكذب الصريح ، لا التورية ، وقد ألحقوا به ما دعت إليه الضرورة أو المصلحة الراجحة ، فيجوز الكذب فيه . وإن احتاج إلى الحلف ، حلف ولا شيء عليه ، والأولى أن يستعمل المعاريض والتورية .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْحَرْب خُدْعَة ) ... وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيث جَوَاز الْكَذِب فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء : أَحَدهَا فِي الْحَرْب . قَالَ الطَّبَرِيُّ : إِنَّمَا يَجُوز مِنْ الْكَذِب فِي الْحَرْب الْمَعَارِيض دُون حَقِيقَة الْكَذِب , فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ , هَذَا كَلَامه , وَالظَّاهِر : إِبَاحَة حَقِيقَة نَفْس الْكَذِب ، لَكِنْ الِاقْتِصَار عَلَى التَّعْرِيض أَفْضَل . وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى.
وقال السفاريني رحمه الله : " فهذا ما ورد فيه النص ، ويقاس عليه ما في معناه ، ككذبه لستر مال غيره عن ظالم , وإنكاره المعصية للستر عليه ، أو على غيره ما لم يجاهر الغير بها , بل يلزمه الستر على نفسه وإلا كان مجاهرا , اللهم إلا أن يريد إقامة الحد على نفسه كقصة ماعز , ومع ذلك فالستر أولى ويتوب بينه وبين الله تعالى .
وكل ذلك يرجع إلى دفع المضرات . وقد قدمنا عن الإمام الحافظ ابن الجوزي أن ضابط إباحة الكذب أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا به فهو مباح , وإن كان ذلك المقصود واجبا فهو واجب , وكذا قال النووي من الشافعية .
فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله فلقي رجلا فقال : رأيت فلانا ؟ فإنه لا يخبر به ، ويجب عليه الكذب في مثل هذه الحالة ، ولو احتاج للحلف في إنجاء معصوم من هلكة . قال الإمام الموفق : لأن إنجاء المعصوم واجب ... ولكنه والحالة هذه ينبغي له العدول إلى المعاريض ما أمكن لئلا تعتاد نفسه الكذب ".
ثم قال السفاريني : " والحاصل : أن المعتمد في المذهب أن الكذب يجوز حيث كان لمصلحة راجحة كما قدمناه عن الإمام ابن الجوزي , وإن كان لا يتوصل إلى مقصود واجب إلا به وجب . وحيث جاز فالأولى استعمال المعاريض " انتهى من "غذاء الألباب" (1/141).
والله أعلم .