ما هو الحكم الإسلامي في مسألة الوقف ؟.
الحمد لله.
الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة والمراد بالأصل : ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدور والدكاكين والبساتين ونحوها , والمراد بالمنفعة : الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة وسكنى الدار ونحوها .
وحكم الوقف أنه قربة مستحب في الإسلام , والدليل على ذلك السنة الصحيحة ، ففي الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ! إني أصبت مالاً بخيبر لم أصب قط مالاً أنفس عندي منه ؛ فما تأمرني فيه ؟ قال : ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها , غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ) , فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف . وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده , أو ولد صالح يدعو له ) . وقال جابر : ( لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف ) .
وقال القرطبي رحمه الله : ( ولا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد خاصة واختلفوا في غير ذلك ) .
ويشترط أن يكون الواقف جائز التصرف ؛ بأن يكون بالغاً حراً رشيداً فلا يصح الوقف من الصغير والسفيه والمملوك .
وينعقد الوقف بأحد أمرين :
الأول : القول الدال على الوقف ؛ كأن يقول : وقفت هذا المكان أو جعلته مسجداً .
الأمر الثاني : الفعل الدال على الوقف في عرف الإنسان كمن جعل داره مسجداً , وأذن للناس في الصلاة فيه إذناً عاماً أو جعل أرضه مقبرة , وأذن للناس في الدفن فيها .
وألفاظ التوقيف قسمان :
القسم الأول : ألفاظ صريحة ؛ كأن يقول : وقفت , وحبست وسبلت , وسميت .... هذه الألفاظ صريحة ؛ لأنها لاتحتمل غير الوقف ؛ فمتى أتى بصيغة منها ؛ صار وقفًا ، من غير انضمام أمر زائد إليه .
والقسم الثاني : ألفاظ كناية ؛ كأن يقول : تصدقت ، و حرمت ، و أبدت ... سميت كناية لأنها تحتمل معاني الوقف وغيره ؛ فمتى تلفظ بواحد من هذه الألفاظ ؛ اشترط اقتران نية الوقف معه ، أو اقتران أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية معه ، واقتران أحد الألفاظ الصريحة ؛ كأن يقول : تصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة ، واقتران لفظ الكناية بحكم الوقف ؛ كأن يقول : تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث .
ويشترط لصحة الوقف شروط ، وهي :
أولاً : أن يكون الواقف جائز التصرف كما سبق .
ثانياً : أن يكون الموقوف مما ينتفع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه ؛ فلا وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به ؛ كالطعام .
ثالثاً : أن يكون الموقوف معيناً ؛ فلا يصح وقف غير المعين ؛ كما لو قال :
وقفت عبداً من عبيدي أو بيتاً من بيوتي .
رابعاً : أن يكون الوقف على بِر ؛ لأن المقصود به التقرب إلى الله تعالى ؛ كالمساجد والقناطر والمساكين و السقايات وكتب العلم والأقارب ؛ فلا يصح الوقف على غير جهة بر ؛ كالوقف على معابد الكفار ؛ وكتب الزندقة , والوقف على الأضرحة لتنويرها أو تبخيرها ، أو على سدنتها ، لأن ذلك إعانة على المعصية والشرك والكفر .
خامساً : ويشترط في صحة الوقف إذا كان على معين أن يكون ذلك المعين يملك ملكاً ثابتاً لأن الوقف تمليك ، فلا يصح على من لا يملك ، كالميت والحيوان .
سادساً : ويشترط لصحة الوقف أن يكون منجزاًُ ، فلا يصح الوقف المؤقت ولا المعلق ، إلا إذا علقه على موته ، صح ذلك ، كأن يقولوا إذا مت فبيتي وقف على الفقراء ، لما روى أبو داود : ( أوصى عمر إن حدث به حدث ، فإن سمغاً - أرض له - صدقة ) واشتهر ، ولم ينكر ، فكان إجماعاً ، ويكون الوقف المعلق على الموت من ثلث المال ، لأنه يكون في حكم الوصية .
ومن أحكام الوقف أنه يجب العمل بشرط الواقف إذا كان لا يخالف الشرع , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون على شروطهم , إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ) ولأن عمر رضي الله عنه وقف وقفاً وشرط فيه شرطاً , ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن فيه فائدة , فإذا شرط منه مقداراً أو شرط تقديماً لبعض المستحقين على بعض أو جمعهم أو اشترط اعتبار وصف في المستحق أو اشترط عدمه أو شرط النظر على الوقف وغير ذلك ،لزم العمل بشرطه ، ما لم يخالف كتاباً ولا سنة .
فإن لم يشترط شيئاً ،استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم .
وإذا لم يعين ناظراً للوقف ، أو عين شخصاً ومات ، فنظر يكون للموقوف عليه إن كان معيناً ، وإن كان الوقف على جهة كالمساجد أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين ، فالنظر على الوقف للحاكم يتولاه بنفسه ، أو ينيب عنه من يتولاه .
ويجب على الناظر أن يتقي الله ويحسن الولاية على الوقف لأن ذلك أمانة أؤتمن عليها .
وإذا وقف على أولاده استوى الذكور والإناث في الاستحقاق ؛ لأنه شرك بينهم ، وإطلاق التشريك يقتضي الاستواء في الاستحقاق ؛ كما لو أقر لهم بشيء ؛ فإن المقر يكون بينهم بالسوية ؛ فكذلك إذا وقف عليهم شيئاً , ثم بعد أولاده لصلبه ينتقل الوقف إلى أولاد بنيه دون ولد بناته لأنهم من رجل آخر فينسبون إلى آبائهم , ولعدم دخولهم في قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) , ومن العلماء من يرى دخولهم في لفظ الأولاد ؛ لأن البنات أولاده ؛ فأولادهن أولاد أولاده حقيقة , والله أعلم .
ولو قال : وقف على أبنائي , أو بني فلان ؛ اختص الوقف بذكورهم ؛ لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة , قال تعالى : ( أم له البنات ولكم البنون ) ؛ إلا أن يكون الموقوف عليهم قبيلة ؛ كبني هاشم وبني تميم فيدخل فيهم النساء ؛ لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها .
لكن إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم ؛ وجب تعميمهم والتسوية بينهم , وإن لم يكن حصرهم واستيعابهم كبني هشام وبني تميم ؛ لم يجب تعميمهم ؛ لأنه غير ممكن وجاز الاقتصار على بعضهم وتفضيل بعضهم على بعض .
والوقوف من العقود اللازمة بمجرد القول , فلا يجوز فسخها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ) قال الترمذي : " العمل على هذا الحديث عند أهل العلم " .
فلا يجوز فسخه ؛ لأنه مؤبد ولا يباع ولا يناقل به ؛ إلا أن تتعطل منافعه بالكلية كدار انهدمت ولم تمكن عمارتها من ريع الوقف أو أرض زراعية خربت وعادت مواتاً ولم يمكن عمارتها بحيف ولا يكون في ريع الوقف ما يعمرها فيباع الوقف الذي هذه حاله ويصرف ثمنه في مثله ؛ لأنه أقرب إلى مقصود الواقف , فإن تعذر مثله كاملاً ؛ صرف ي بعض مثله , و يصير البديل وقفاً بمجرد شرائه .
وإن كان الوقف مسجداً , فتعطل في موضعه , كأن خربت محلته ؛ فإنه يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر , وإذا كان على مسجد وقف زاد ريعه عن حاجته ؛ جاز صرف الزائد إلى مسجد آخر ؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له ، وتجوز الصدقة بالزائد من غلة الوقف على المسجد على المساكين .
وإذا وقف على معين ؛ كما لو قال : هذا على زيد ، يعطى منه كل سنة مئة ، وكان في ريع الوقف على هذا القدر ؛ فإنه يتعين إرصاد الزائد ، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : ( إن علم أن ريعه يفضل دائما ؛ وجب صرفه ؛ لأن بقاؤه فساد له ) .
وإذا وقف على مسجد ، فخرب ، وتعذر عليه من الوقف صرف في مثله من المساجد .