الحمد لله.
أولا :
لاشك أن السنة النبوية - وهي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل
أو تقرير - هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
، والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم .
وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة منها : قوله تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى
، إِن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىْ ) النجم/3-4 .
وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل/44 ، والذكر هنا هو السنة
.
وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبعَان
عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيكُم بِهَذَا القُرآنِ ، فَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن
حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا
وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا
حَرَّمَ اللَّهُ) رواه الترمذي (2664) وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2870)
.
وقال حسان بن عطية رحمه الله : " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم
بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " رواه الدامي في سننه (588) والخطيب في الكفاية (12)
، وعزاه الحافظ في الفتح (13/291) إلى البيهقي ، قال : " بسند صحيح " .
ثانيا :
جاء في بعض الأحاديث - كحديث السواك المذكور - ما قد يُفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالأمر من تلقاء نفسه ، وهي مسألة بحثها العلماء في علم الأصول ، سماها البعض : مسألة التفويض ، وهي هل يجوز أن يُفَوَّض النبي ويقال له : احكم بما شئت فهو الصواب ، وفرَّقوا بينها وبين مسألة الاجتهاد ، بأن التفويض يكون بغير نظر واستدلال بخلاف الاجتهاد .
قال الزركشي رحمه الله في "البحر المحيط" (8/ 51) : " يجوز أن يقال لنبي أو مجتهد : احكم بما شئت من غير اجتهاد فهو صواب , أي فهو حكمي في عبادي , إذا علم أنه لا يختار إلا الصواب ويكون قوله إذ ذاك من جملة المدارك الشرعية , ويسمى ( التفويض ) , قاله القاضي في التقريب وتبعه جماعة ، منهم : إلكيا وابن الصباغ , وقال : إنه قول أكثر أهل العلم . قال القاضي : وقال أكثر المعتزلة : لا يجوز , بناء على رأيهم أن الشرع مبني على المصالح , وقد لا يكون في اختياره مصلحة ... وقال أبو بكر الرازي في أصوله : الصحيح أنه لا يجوز ذلك إلا بطريق الاجتهاد . والثالث : وبه قال أبو علي الجبائي في أحد قوليه : يجوز ذلك للنبي دون العالم , ذكر ذلك في قوله تعالى : ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) قال أبو الحسين : ثم رجع عن هذا القول . وهذا القول اختاره ابن السمعاني . قال : وقد ذكر الشافعي في الرسالة " ما يدل عليه . وقال أبو الحسين في المعتمد " : ذكر الشافعي في الرسالة ما يدل على أن الله تعالى لما علم أن الصواب يتفق من نبيه جعل له ذلك , ولم يقطع عليه بل جوزه وجوز خلافه " انتهى .
وقال في "شرح الكوكب المنير" (3/31) : "يجوز أن يقال لنبي أو مجتهد : احكم بما شئت فهو صواب ويكون ذلك مدركا شرعيا ويسمى : التفويض عند الأكثر ; لأن طريق معرفة الأحكام الشرعية : إما التبليغ عن الله سبحانه وتعالى بإخبار رسله عنه بها , وهو ما سبق من كتاب الله سبحانه وتعالى وثبت بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وما تفرع عن ذلك , من إجماع وقياس وغيرهما من الاستدلالات , وطرقها بالاجتهاد , ولو من النبي صلى الله عليه وسلم .
وإما أن يكون طريق معرفة الحكم : التفويض إلى رأي نبي أو عالم , فيجوز أن يقال لنبي أو لمجتهد غير نبي : احكم بما شئت فهو صواب عند بعض العلماء , ويؤخذ ذلك من كلام القاضي وابن عقيل , وصرحا بجوازه للنبي صلى الله عليه وسلم , وقاله الشافعي وأكثر أصحابه , وجمهور أهل الحديث , فيكون حكمه من جملة المدارك الشرعية , فإذا قال " هذا حلال " عرفنا أن الله سبحانه وتعالى في الأزل حكم بحله , وكذا " هذا حرام " ونحو ذلك , لا أنه ينشئ الحكم ; لأن ذلك من خصائص الربوبية , قاله ابن الحاجب وتبعه ابن مفلح , وتردد الشافعي , أي في جوازه , كما قال إمام الحرمين , وقال : الجمهور في وقوعه , ولكنه قاطع بجوازه " انتهى.
واختلف القائلون بالجواز ، هل وقع هذا أو لم يقع .
واستدل القائلون بوقوع التفويض بأدلة منها :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ) رواه البخاري (887) ومسلم (252) .
2- ما روى مسلم (1337) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) .
3- ما روى البخاري (1833) ومسلم (1355) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ) وَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ : (إِلَّا الْإِذْخِرَ) .
وأجاب المانعون عن ذلك بأجوبة كثيرة .
قال ابن أمير الحاج في "التقرير والتحرير" (3/338) : "أجيب بجواز كونه صلى الله عليه وسلم خير فيها أي في هذه الصور الثلاثة معيّنا ، أي : كأنه قيل له : أنت مخير في إيجاب السواك وعدمه ، وتكرار الحج وعدمه ... أو كون القول المذكور فيها بوحي سريع لا من تلقاء نفسه ".
ونقل عن الأسنوي قوله : " وأما قوله : ( لولا أن أشق على أمتي ) فيحتمل أن يكون البارئ تعالى أمره بأن يأمرهم عند عدم المشقة فلما وجد المشقة لم يأمرهم ".
ثم قال : " وقال ابن السمعاني : هذه المسألة , وإن أوردها متكلمو الأصوليين فليست بمعروفة بين الفقهاء وليس فيها كبير فائدة ; لأن هذا في غير الأنبياء لم يوجد ولا يتوهم وجوده في المستقبل فأما في حق النبي فقد وجد . انتهى ".
ويمكن أن يقال في مسألة السواك : إن همّه صلى الله عليه وسلم بالأمر به كان اجتهادا منه ، حتى إنه خشي أن ينزل فيه وحي ، كما روى أحمد في المسند (2895) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أمرت بالسواك حتى خشيت أن يوحي إلي فيه) . قال شعيب الأرنؤوط : حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف .
وسواء كان هذا اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم ، أو تفويضاً فُوِّض فيه ، فإنه صلى الله عليه وسلم إذا أُقِرَّ عليه كان ذلك بمنزلة ما لو أوحي إليه فيه ابتداء ، فسنته صلى الله عليه وسلم دائرة بين أمرين : أن تكون وحيا ابتداء ، أو أن يكون مآلها إلى الوحي ، وذلك بإقرارها من الله تعالى.
وخلاصة الجواب :
أن هذا إما أن يكون من باب التفويض ، وإما أن يكون اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم ، وقد وافقه الوحي عليه ولم ينكره .
والخلاف في هذه المسألة – كما قال ابن السمعاني – ليس فيها كبير فائدة ، لأن الحكم الشرعي ثابت وصحيح ، سواء كان ذلك عن طريق التفويض ، أو الاجتهاد الذي أقره عليه الوحي .
والله أعلم .