الحمد لله.
أولا :
للتعرف على صفة لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم لا بد من الوقوف على جميع الأحاديث الواردة في هذا الشأن ، وقد تبين لنا - بعد حصرها ودراستها - أن أكثرها لا يثبت إسناده إلى الصحابة الكرام الذين وصفوا لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما القليل الصحيح فلم يشتمل على وصف دقيق مفصل ، وإنما على ذكر بعض الأوصاف ، وهذه الأوصاف الثابتة هي : كثرة شعر اللحية ، وكثاثتها .
فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال :
( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ )
رواه مسلم (رقم/2344)
وعَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ :
( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... كَثَّ اللِّحْيَةِ )
رواه النسائي (رقم/5232) وصححه الألباني في " صحيح النسائي ".
وورد أيضا هذا الوصف : ( كث اللحية ) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في " مسند الإمام أحمد " (2/102) طبعة مؤسسة الرسالة ، وحسنه المحققون .
وقد استدل بعض أهل العلم بهذين الوصفين – كثرة الشعر والكثاثة - على أن لحيته الشريفة عليه الصلاة والسلام لم تكن طويلة ؛ لأن الكثاثة تعني غزارة الشعر والتِفَافَه مِن غير طول .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله :
" قوله : ( كث اللحية ) الكثوثة أن تكون اللحية غير دقيقة ، ولا طويلة ، ولكن فيها كثاثة من غير عِظَمٍ ولا طول " انتهى.
رواه عنه الطبراني في " المعجم الكبير " (22/159)
وقال الإمام أبو العباس القرطبي رحمه الله :
" لا يفهم من هذا – يعني قوله ( كثير شعر اللحية ) - أنه كان طويلها ، فإنَّه قد صحَّ أنه كان كثَّ اللحية ؛ أي : كثير شعرها غير طويلة ، وكان يخلل لحيته " انتهى.
" المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " (6/135)
وقال الإمام السيوطي رحمه الله :
" كان كثير شعر اللحية ، أي : غزيرها ، مستديرها " انتهى.
" الشمائل الشريفة " (ص/32)
ثانيا :
وأما وصف لحية النبي صلى الله عليه وسلم الكريمة بأنها " عظيمة "، فهذا إنما ورد من طريق شريك بن عبد الله النخعي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أَنَّهُ وَصَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
( كَانَ عَظِيمَ الْهَامَةِ ، أَبْيَضَ ، مُشْرَبًا حُمْرَةً ، عَظِيمَ اللِّحْيَةِ )
رواه أحمد في " المسند " (2/257) وغيره جميعهم من هذا الطريق ، وقد انفرد شريك بهذا اللفظ عن غيره من رواة الحديث ، ومثله لا يقبل تفرده .
ورواه أحمد في " المسند " أيضا (2/344) من طريق شريك عن عبد الملك بن عمير ، بلفظ : ( ضخم اللحية )
وورد أيضا وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه كان " ضخم الرأس واللحية " مِن حديث عثمان بن عبد الله - أو ابن مسلم – بن هرمز ، عن نافع بن جبير ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ...ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ )
رواه أحمد في " المسند " (2/143) طبعة مؤسسة الرسالة ، والضياء المقدسي في " المختارة " (2/368)، وغيرهم .
وهذا إسناد ضعيف بسبب عثمان بن عبد الله بن هرمز ، قال فيه النسائي : ليس بذاك ، انظر: " تهذيب التهذيب " (7/139)، وهو وإن توبع من رواة آخرين ، لكن المتابعة حاصلة لأصل الحديث فقط ، وليس فيها هذا الوصف : " ضخم الرأس واللحية "، بل إن رواية الإمام الترمذي للحديث في " الجامع " (رقم/3637) من الطريق نفسها فيها وصف " ضخم الرأس "، دون قوله : " واللحية "، مما يدل على اضطراب بعض رواة الحديث .
ثالثا :
وأما وصف لحيته صلى الله عليه وسلم بأنها كانت تملأ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام : فهذا لم نقف عليه مسندا مأثورا ، وإنما ذكره القاضي عياض رحمه الله من غير إسناد ، ولا نسبةٍ إلى قائله .
يقول القاضي عياض رحمه الله :
" كث اللحية تملأ صدره " انتهى.
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " (1/20)
ويقول ابن حزم رحمه الله :
" كث اللحية واسعها " انتهى.
" جوامع السيرة " (ص/22)
رابعا :
ومن الأحاديث الواردة في وصف لحية النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة ما يرويه يزيد الفارسي فيقول :
( رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ زَمَنَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : وَكَانَ يَزِيدُ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ ، قَالَ : فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي ، فَمَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي . فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْتَ ؟
قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، رأَيْتُ رَجُلًا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ، جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ أَسْمَرُ إِلَى الْبَيَاضِ ، حَسَنُ الْمَضْحَكِ ، أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ ، جَمِيلُ دَوَائِرِ الْوَجْهِ ، قَدْ مَلَأَتْ لِحْيَتُهُ مِنْ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ ، حَتَّى كَادَتْ تَمْلَأُ نَحْرَهُ . قَالَ : فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ رَأَيْتَهُ فِي الْيَقَظَةِ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْعَتَهُ فَوْقَ هَذَا )
رواه أحمد في " المسند " (5/389) طبعة مؤسسة الرسالة .
وهذا الحديث يختلف حكمه بسبب الاختلاف في يزيد الفارسي ، فذهب علي بن المديني وأحمد بن حنبل إلى أنه هو نفسه يزيد بن هرمز الثقة ، وذهب يحيى القطان ورجحه أكثر المتأخرين إلى أنه يزيد آخر في عداد المجهولين ، ولكن لعل الحكم عليه بالجهالة لا يتوافق مع ما ذهب إليه أبو حاتم في " الجرح والتعديل " (9/293) من قوله فيه : لا بأس به ، رغم ترجيح أبي حاتم أنهما راويان مختلفان . وباقي الإسناد رواته ثقات .
والشاهد في الحديث قوله : ( قَدْ مَلَأَتْ لِحْيَتُهُ مِنْ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ ، حَتَّى كَادَتْ تَمْلَأُ نَحْرَهُ ) فقد جاء في رواية ابن أبي شيبة في " المصنف " (6/328) – وأشار بيده إلى صدغيه – يعني أن لحيته الشريفة عليه الصلاة والسلام لم تكن طويلة تملأ صدره ، بل تكاد تملأ نحره ، والنحر هو أعلى الصدر ، وهذا يدل على اعتدال طولها وتوسطه .
وأما حكم الأخذ من اللحية ، فقد سبق بيانه في جواب رقم : (48960) ، (137251) ، (145512)
والله أعلم .