الحمد لله.
هذه القصة جاءت من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت :
( أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى بُصْرَى ، وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ ، وَكِلَاهُمَا بَدْرِيٌّ ، وَكَانَ سُوَيْبِطٌ عَلَى الزَّادِ ، فَجَاءَهُ نُعَيْمَانُ ، فَقَالَ : أَطْعِمْنِي ، فَقَالَ : لَا ، حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو بَكْرٍ ، وَكَانَ نُعَيْمَانُ رَجُلًا مِضْحَاكًا مَزَّاحًا – أي كثير الضحك والمزاح - ، فَقَالَ : لَأَغِيظَنَّكَ . فَذَهَبَ إِلَى نَاسٍ جَلَبُوا ظَهْرًا ، فَقَالَ : ابْتَاعُوا مِنِّي غُلَامًا عَرَبِيًّا فَارِهًا ، وَهُوَ ذُو لِسَانٍ ، وَلَعَلَّهُ يَقُولُ : أَنَا حُرٌّ ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَارِكِيهِ لِذَلِكَ ، فَدَعُونِي ، لَا تُفْسِدُوا عَلَيَّ غُلَامِي ، فَقَالُوا : بَلْ نَبْتَاعُهُ مِنْكَ بِعَشْرِ قَلَائِصَ – أي : عشر نوق ، جمع ناقلة - . فَأَقْبَلَ بِهَا يَسُوقُهَا ، وَأَقْبَلَ بِالْقَوْمِ حَتَّى عَقَلَهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلْقَوْمِ : دُونَكُمْ هُوَ هَذَا ، فَجَاءَ الْقَوْمُ ، فَقَالُوا : قَدْ اشْتَرَيْنَاكَ . قَالَ سُوَيْبِطٌ : هُوَ كَاذِبٌ ، أَنَا رَجُلٌ حُرٌّ ، فَقَالُوا : قَدْ أَخْبَرَنَا خَبَرَكَ ، وَطَرَحُوا الْحَبْلَ فِي رَقَبَتِهِ ، فَذَهَبُوا بِهِ ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأُخْبِرَ ، فَذَهَبَ هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ ، فَرَدُّوا الْقَلَائِصَ وَأَخْذُوهُ . فَضَحِكَ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا )
رواه أحمد في " المسند " (44/284) وهذا سياق لفظه ، وابن ماجه في " السنن " (رقم/3719) وغيرهم جميعهم من طريق زمعة بن صالح عن الزهري .
وزمعة بن صالح هذا ضعَّفه أهل العلم ، قال فيه الإمام أحمد : ضعيف . وقال فيه أبو داود : لا أخرج حديثه . وقال البخاري : يخالف في حديثه ، تركه ابن مهدي أخيرا . وسئل أبو زرعة عنه ، فقال : لين واهي الحديث ، حديثه عن الزهرى كأنه يقول : مناكير . وهكذا أجمعت كلمة المحدثين على تضعيف حديثه . انظر: " تهذيب التهذيب " (3/339)
ولذلك ضعف الحديث البوصيري في "مصباح الزجاجة" (4/115) والشيخ الألباني في " ضعيف ابن ماجه " وهذا الحكم أصوب من حكم الحافظ الذهبي على الحديث في "السيرة النبوية مقدمة تاريخ الإسلام" (ص/136) بأنه حديث حسن .
ثم إن هذا الحديث الضعيف يخالف ما ثبت في الشريعة من تحريم ترويع المسلم وتخويفه ولو كان على وجه المزاح واللعب ، كما روى ذلك عبد الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ ، فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) رواه أبو داود (رقم/5004)
ورغم تضعيف قصة نعيمان وسويبط فقد أجاب عنها العلماء على فرض صحتها ، وبينوا أنها لا تدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لترويع المسلمين بالمزاح ، ونحن ننقل ههنا كلامهم لمزيد الفائدة ، وإلا فضعف الحديث يغني عن الجواب عنه .
يقول أبو جعفر الطحاوي رحمه الله :
" إنما في الحديث ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك الفعل حولا ، كمثل ما قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون بأمور الجاهلية ، فيضحك أصحابه من ذلك بمحضره من غير نهي منه إياهم عن ذلك ، وإن كانت تلك الأفعال ليس بمباح لهم فعل مثلها في الإسلام
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنع من ترويع المسلم – فذكر حديث السائب " لا يحل لمسلم أن يروع مسلما " - فكان ذلك تحريما منه لمثل ذلك ، ونسخا لما كان قد تقدمه مما ذكرناه في هذا الباب مما تعلق به من تعلق ممن يذهب إلى إباحة مثله إن كان مباحا حينئذ " انتهى.
" شرح مشكل الآثار " (4/305-308)
ويقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" من ائتمنه المالك ، كوديع ، يمتنع عليه أخذ ما تحت يده من غير علمه ؛ لأن فيه إرعابا له بظن ضياعها ، ومنه يؤخذ حرمة كل ما فيه إرعاب للغير ، ودليله أن زيد بن ثابت نام في حفر الخندق ، فأخذ بعض أصحابه سلاحه ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ترويع المسلم من يومئذ ، ذكره في " الإصابة ".
لكن يشكل عليه ما رواه أحمد أن أبا بكر خرج تاجرا ومعه بدريان : نعيمان ، وسويبط ، فقال له أطعمني ...- فذكر القصة - .
وقد يجمع بحمل النهي على ما فيه ترويع لا يُحتمل غالبا ، كما في القصة الأولى ، والإذن على خلافه كما في الثانية ؛ لأن نعيمان الفاعل لذلك معروف بأنه مضحاك مزاح ، كما في الحديث ، ومن هو كذلك الغالب : أن فعله لا ترويع فيه ، كذلك عند من يعلم بحاله ، فتأمل ذلك فإني لم أر من أشار لشيء منه مع كثرة المزاح بالترويع ، وقد ظهر أنه لا بد فيه من التفصيل الذي ذكرته .
ثم رأيت الزركشي قال في " تكميله " نقلا عن " القواعد ": إن ما يفعله الناس من أخذ المتاع على سبيل المزاح حرام ، وقد جاء في الحديث : ( لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا جادا ) جعله لاعبا من جهة أنه أخذه بنية رده ، وجعله جادا لأنه روع أخاه المسلم بفقد متاعه ا هـ . وما ذكرته أولى وأظهر كما هو واضح " انتهى.
" تحفة المحتاج " (10/287)
والله أعلم .