كيف أتصرف مع الناس في حالة استهزائهم بي ( قد يكون ذلك لكوني ملتحياً - والحمد لله ونسأل الله الثبات والتوفيق - ) فالبعض يرمونني بنظرات حادة ، والبعض ينظر إليَّ بنظرة تدل على استهزاء واضح ، بل على احتقار ، والبعض يمرون بجانبي رافعين أصواتهم بالاستغفار والحوقلة ، وأرى أن رفع الصوت ليس بصفة عادية أي ما يدل على ذكرهم لله بل في أصواتهم بغض وكراهية ، ومرَّة مرَّ بجانبي رجل رافعاً صوته بالاستغفار وعابساً وجهه ، ووصل به الحد إلى أن يبزق أمامي ! ولا حول ولا قوة إلا بالله . وأنا لا أعرف ماذا يرضي الله في مثل هذه الحالات ، فهل أتغافل ؟ أم أواجههم ؟ وفي حالة كثرة الاستهزاء من قبل الشخص ماذا أفعل ؟ وفي حالة كان المستهزئ أنثى ؟ . فأفتوني في أمري بارك الله فيكم .
الحمد لله.
أولاً:
اعلم – أخي السائل – أن الاستهزاء بأهل الدِّين والسخرية منهم ليس جديداً على أهل الشر والسوء ، فقد استهزأ أسلافهم بالمرسلين والصالحين ، ولم يمنعهم ذلك الاستهزاء من الاستمرار في الاستقامة على أمر الله ، واستمرار دعوة الناس إلى ربهم عز وجل .
قال تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ . وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ) الحِجر/ 10 - 13.
ثانياً:
اعلم أن أولئك المستهزئين والساخرين بك وباستقامتك على أمر الله تعالى قد ذكر الله تعالى من حالهم أنهم على طريق المنافقين ، وأنهم مجرمون ، وأنهم من عبَّاد الدنيا .
قال تعالى ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة/ 79 .
وقال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) المطَّففين/ 29 .
وقال تعالى ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) البقرة/ 212 .
وفي حكم المستهزئ بمظاهر السنَّة انظر جواب السؤال رقم ( 10397 ) .
ثالثاً:
اعلم – أخي السائل – أن الله تعالى ذَكر في كتابه الكريم استهزاء أقوام الأنبياء والمرسلين بهم ، وذكر عاقبتهم الوخيمة في الدنيا ، وذكر ما توعدهم به في الآخرة وأنهم سيصلون سعيراً ، ولعلَّ هذا أن يخفف عنك ما أنت فيه من ضيق وهم وغم ، ولعل ذلك أن يكون رادعاً لهم ليتوبوا من سخريتهم بك ، واستهزائهم بسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
"فمِن استهزائهم بنوح قولهم له : بعد أن كنت نبيّاً صرت نجاراً ، وقد قال الله تعالى عن نوح : ( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) هود/ 38 ، وذكر ما حاق بهم بقوله : ( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت/ 14 ، وأمثالها من الآيات .
ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم : ( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) هود/ 54 ، وقوله عنهم أيضاً : ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ) الآية هود/ 53 ، وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله : ( أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) الآية الذاريات/ 41 ، وأمثالها من الآيات .
ومن استهزائهم بصالح قولهم فيما ذكر الله عنهم : ( وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف/ 77 ، وقولهم : ( قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا ) الآية هود/ 62 ، وذكر ما حاق بهم بقوله : ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) هود/ 94 ، ونحوها من الآيات .
ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ) الآية النمل/ 56 ، وقولهم له أيضاً : ( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ) الشعراء/ 167 ، وذكر ما حاق بهم بقوله : ( فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) الحِجر/ 74 ، ونحوها من الآيات .
ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم : ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) هود/ 91 ، وذكر ما حاق بهم بقوله : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الشعراء/ 189 ، ونحوها من الآيات" انتهى من" أضواء البيان " ( 1 / 473 ) .
وفي حق سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ) الأنبياء/ 36 .
رابعاً:
إذا علمت ما سبق : فإن الذي نوصيك به في مواجهة أولئك المستهزئين والساخرين :
1. الصبر على ما تراه وتسمعه منهم ، وقد سبق لك أن علمت أن الأنبياء والمرسلين لم يسلموا من الاستهزاء بهم ، وقد صبروا على ما أوذوا . قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) الأنعام/34 .
2. الاستمرار على استقامتك على الحق ، وعدم التنازل عن شيء منه إرضاء للناس ، وليكن على بالك دوماً السعي لإرضاء الله ولو سخط عليك بسبب ذلك الناس ، ولا تبحث عما يرضي الناس فإنك بذلك تتسبب في سخط الله عليك .
3. الاعتقاد الجازم أن الله تعالى سينتصر لك على أولئك الظالمين ، وأن عاقبة استهزائهم الخسارة ، وانظر في حال المرسلين وأقوامهم الذين سخروا منهم ليتأكد لك صدق ما نقوله .
قال الشيخ عطية سالم – رحمه الله – توكيداً لما ذكرناه لك في النقاط السابقة - :
إذا كان هذا حال بعض الذين أجرموا مع بعض ضعفة المؤمنين ، وكذلك حال بعض الأمم مع رسلها : فإن الداعية إلى الله تعالى يجب عليه ألا يتأثر بسخرية أحد منه ، ويعلم أنه على سَنن غيره من الدعاة إلى الله تعالى ، وأن الله تعالى سينتصر له إما عاجلاً ، وإما آجلاً ، كما في نهاية كل سياق من هذه الآيات .
( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) المطففين/ 36 .
وهذا رد على سخرية المشركين منه في الدنيا وهو كما قال تعالى ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) آل عمران/ 212 .
" تتمة أضواء البيان " ( 8 / 464 ، 465 ) .
4. الاعتقاد الجازم أن الله تعالى سيثيبك أجراً جزيلاً على ما يصيبك من هم وغم وحزن بسبب ما تراه وتسمعه من أولئك الظالمين ، وهذا – إن شاء الله – سيجعلك صابراً صامداً لا تتزحزح عن طريق الحق .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ) .
رواه البخاري ( 5318 ) ومسلم ( 2573 ) – واللفظ له - .
النَّصب : التعب ، والوصب : الألم والسقم الدائم ،
5. تجنب مجالسة أولئك المستهزئين ، وهجر أماكن اجتماعهم ، إلا أن ترى أنك لا تتأثر بكلامهم ، وأنك ستغير من حالهم .
قال تعالى ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) النساء/ 140 .
6. الشدة تجاه من تستطيع إسكاته وردعه بها ، وعدم السكوت على أفعالهم وأقوالهم ؛ فإن من شأن سكوتك أن يزيد في جرأتهم عليك ، والإسلام لا يطلب من أهله أن يكونوا أذلة أمام أولئك الظالمين المستهزئين ، وهم أصحاب معصية وحالهم أنهم ذليلون صاغرون إذا ما رأوا منك شدة تجاه ما يفعلونه وما يقولونه .
وينظر : محاضرة " عوائق في طريق الالتزام " ، للشيخ محمد صالح المنجد .
7. الابتعاد عن الأشياء التي تسبب الاستهزاء من قبَلهم مما يمكنك فعله أو تركه ، دون أن تقع في مخالفة الشرع ، فلا تقصِّر ثوبك – مثلاً – إلى درجة تلفت فيها النظر وتسبب لنفسك السخرية ، والمهم في الثوب أن لا يمس الكعبين ، واحذر من اللباس البالي أو غير النظيف ؛ فهذا ليس من الشرع ، وهو يسبب لك الأذى من السفهاء قولاً وفعلاً ، فلا تتنازل عن فعل واجب ، ولا تفعل محرَّماً ، وما كان فيه مجال لتركه خشية أذية الناس مما لا تستطيع الصبر عليه : فاتركه .
وانظر – للأهمية – جواب السؤال رقم ( 126311 ) .
8. الدعاء لأولئك البعيدين عن شرع الله بأن يهديهم الله تعالى ، والدعاء لنفسك بأن يثبتك ربك على الحق .
نسأل الله تعالى أن يصبِّرك وأن يكتب لك أجر استقامتك على دينه ، وأن يهدي ضالَّ المسلمين لما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم .
والله أعلم