في المسجد الذي أصلي فيه إمام على المذهب الحنفي ، وحينما يسجد هذا الإمام تكون بطنه مقاربة تماما من الأرض ، ويبدو وكأنه نائم على بطنه تقريباً ، ولم أر في حياتي مطلقاً عالماً من العلماء يسجد على هذه الهيئة ، ولقد عارضه في ذلك بعض المصلين ، ولكنه كان يرد ويقول : إنه على الصواب ، ولقد سألنا عالماً ومفتياً في المنطقة عندنا فقال : إن سجوده هذا مخالف للسنة المطهرة ، لكن صلاته صحيحة ، ما دام أنه يسجد على سبعة أعضاء . ولا يجرؤ أحد منا أن يتكلم معه في هذا الشأن ، أو يقول له إنه خطأ ، فهل علينا الاستمرار في الاقتداء به في الصلاة ، والصلاة وراءه ؛ أم نتركه ونصلي في مسجد آخر؛ فهناك مسجد أخر على الطريقة السلفية ، لكن الإمام الذي يصلي بالناس فيه يكاد يكون حليق اللحية ومسبلاً إزاره تحت كعبيه ، فهل نذهب ونصلي وراءه ؟ فضلاً أفيدونا بالإجابة .
الحمد لله.
أولاً :
" كَيْفِيَّةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ : أَنْ يَسْجُدَ الْمُصَلِّي عَلَى الأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ : الْجَبْهَةِ مَعَ الأَنْفِ ، وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ ، وَالْقَدَمَيْنِ - مُمَكِّنًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنَ الأَرْضِ ، وَيَنْشُرَ أَصَابِع يَدَيْهِ مَضْمُومَةً لِلْقِبْلَةِ ، وَيُفَرِّقَ رُكْبَتَيْهِ ، وَيَرْفَعَ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ ، وَفَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ ، وَيُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ، وَيَسْتَقْبِل بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ " .
"الموسوعة الفقهية" (27 / 97)
والمقصود أن يستقل كل عضو بنفسه ، ويأخذ حظه من السجود ، وقد روى البخاري (828) عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا "
(وَلَا قَابِضِهِمَا) أي لا يضمهما إلى جنبيه .
"فتح الباري" (2/302)
وعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها قَالَتْ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ جَافَى حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَضَحَ إِبْطَيْهِ ) رواه مسلم (497) .
يَعْنِي: بَيَاضَهُمَا.
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ، وَبَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ إذَا سَجَدَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِ " انتهى .
"المغني" (1/306)
وقال ابن المنير رحمه الله : " الْحِكْمَة فِيهِ أَنْ يَظْهَر كُلّ عُضْو بِنَفْسِهِ وَيَتَمَيَّز حَتَّى يَكُون الْإِنْسَان الْوَاحِد فِي سُجُوده كَأَنَّهُ عَدَد ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَسْتَقِلّ كُلّ عُضْو بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْتَمِد بَعْض الْأَعْضَاء عَلَى بَعْض فِي سُجُوده " انتهى .
"فتح الباري" (4 / 200) .
ثانياً :
الهيئة المذكورة في السؤال عن هذا الإمام: أن يمتد في سجوده ، كالمنبطح على الأرض ، حتى تكاد تمس بطنه الأرض ، هي هيئة منكرة مخالفة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حال سجوده ، ومخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ ) . رواه البخاري (532) ومسلم (493) .
قال الكاساني رحمه الله في بيان صفة السجود :
" وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ ... ، وَمِنْهَا أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ أَيْ أَظْهِرْ الضَّبُعَ وَهُوَ وَسَطُ الْعَضُدِ بِلَحْمِهِ ، وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَدِلَ فِي سُجُودِهِ وَلَا يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ ... [ وذكر الحديث السابق ]" انتهى من "بدائع الصنائع" ، للكاساني (1/210) ، وهو من الكتب المعتمدة في المذهب الحنفي .
وروى ابن خزيمة (638) عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته : ( ثم إذا أنت سجدت فأثبت وجهك ويديك حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه ) حسنه الألباني في "صفة الصلاة" (ص 142)
ولا يطمئن كل عظم إلى موضعه إلا على هيئة السجود المعروفة ، لا في مثل تلك الهيئة المنكرة والمزعجة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( اعتدلوا في السجود ) أي : اجعلوه سجوداً معتدلاً ، لا تهصرون فينزل البطن على الفخذ ، والفخذ على الساق ، ولا تمتدون أيضاً ، كما يفعل بعض الناس إذا سجد يمتد حتى يقرب من الانبطاح ، فهذا لا شك أنه من البدع ، وليس بسنة ، فما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن الصحابة - فيما نعلم - أن الإنسان يمد ظهره في السجود ، إنما مد الظهر في حال الركوع . أما السجود فإنه يرتفع ببطنه ولا يمده " انتهى
"الشرح الممتع" (3 / 38) .
وقد توسع الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في بيان السنة في هذه المسألة ، فقال في بيانه لبعض الهيئات المحدثة في الصلاة :
" 3- زيادة الانفراش والتَّمَدُّدِ في السجود :
الاعتدال، وإِقامة الصلب في الركوع والسجود، من هدي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما.
وَحَدُّهُ في السجود: التوسط بين الانفراش، وبين القبض والتقوس، بتمكين أَعضاء السجود السبعة على الأَرض، مع المجافاة المعتدلة بين الفخذين والساقين، وبين البطن والفخذين، وبين العضدين والجنبين، وعدم بسط الذراعين على الأَرض.
وانظر كيف قرنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين الأَمر بالاعتدال في السجود، والنهي عن بسط الذراعين انبساط الكلب.
فعن أَنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( اعتدلوا في السجود ولا يبسط أَحدكم ذراعيه انبساط الكلب) . رواه البخاري في "صحيحه"(2 / 302 فتح)، والنسائي في "سننه": (1109).
وعنه أَيضاً بلفظ : ( اعتدلوا في الركوع والسجود ولا يبسط أَحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) رواه البخاري: (822)، والنسائي: (1027) وغيرهما.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى - : " (اعتدلوا) أَي : كونوا متوسطين بين الانفراش والقبض " انتهى.
ثم ذكر كلام ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - الذي يفيد عموم النهي عن الانفراش والتَّمَدُّدِ والقبض في "هيئة السجود" ، لا في خصوص الذراعين .
وقد ثبت من حديث ميمونة - رضي الله عنها -: ( أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إِذا سجدَ جافَى يديه ، لو أَن بهمة أَرادت أَن تمر تحت يديه مَرَّت ) أَخرجه مسلم وأَصحاب السنن، ولفظه عند النسائي: (1108) .
وعليه :
فإِن زيادة الانفراش والتَّمدُّدِ في السجود، إِفراط عن حدِّ الاعتدال في أَداء هذا الركن العظيم، الذي يُطلَب من العبد فيه: أَن يكون في غاية التذلُّل والخضوع والانكسار لربه ومعبوده - سبحانه وتعالى -؛ إِذ العبد أَقرب ما يكون من ربه وهو ساجد؛ ولهذا أَمرنا بالدعاء فيه، وأَنه من مواطن الاستجابة. فَحَرِيٌّ بركن هذه منزلته أَن يُؤدَّى على وَفْقِ الهدْي النبوي، المحفوف بالاعتدال، وعدم التكلُّف والتحفز، فلا هو بالإِفراط في هذه الصفة المستحدثة، ولا بالتفريط على هيئة الكسلان ، نحو سجود بعضهم ببسط الذراعين على الأَرض، وإِلصاق البطن بالفخذين، والفخذين بالساقين، وهذا يجمع عدداً من المنهيات.
وفي "صحيح البخاري" (1 / 247) في "كتاب الوضوء" ، قول ابن عمر - رضي الله عنه - لواسع بن حبان: لَعَلَّكَ من الذين يُصلون على أَوراكهم ؟! فقلت: لا أَدري والله .
قال مالك : يعني الذي يصلي ولا يرتفع عن الأَرض ، يسجد وهو لاصق بالأَرض.
والسُّنة وسط بين الإِفراط والتفريط ، وعليها عمل المسلمين ، والحمد لله ربِّ العالمين. فالحذر الحذر من الإِيغال المؤدِّي إِلى التزيُّد في تطبيق السنن." انتهى من كتاب "لا جديد في أحكام الصلاة" ، للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله (35-37) .
فالواجب تنبيه هذا الإمام إلى مخالفته السنة في ذلك ، حتى وإن كانت صلاته صحيحة ، كما ذكر في السؤال ، إلا أن إحداثه مثل هذه الهيئة المنكرة مما ينبغي إنكاره ، لمن قدر على ذلك ، من غير إحداث فتنة ولا هرج في المسجد .
ثالثاً :
إذا لم ينته هذا الإمام عن مخالفته هذه ، أو لم يمكن نهيه عنها ، فإن أمكن تغييره ووضع إمام آخر مقيم للسنة مكانه : كان ذلك هو الأولى ، محافظة على الصلاة في أحسن هيئاتها ، وأتم أفعالها .
وإن لم يمكن ، وكان عندكم مسجد آخر تقام فيه السنة ، فالصلاة فيه أفضل، حتى وإن كان إمامه مسبلاً ثيابه، أو حالقاً لحيته ، فمعصيته على نفسه ، والسنة التي يقيمها في الصلاة: له ولغيره .
سئل علماء اللجنة الدائمة :
صدرت فتوى في بعض البلدان من أحد كبار المشايخ قال فيها : إن الإمام الحالق لحيته لا تجوز الصلاة وراءه ، فنريد من سيادتكم أن تبينوا لنا هل هذه الفتوى صحيحة أم غير صحيحة؟.
فأجابت اللجنة : " إعفاء اللحية واجب، وحلقها حرام ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى ) ومذهب أهل السنة والجماعة الصلاة خلف كل بر وفاجر ، طلباً للألفة والجماعة ودرءاً للخلاف والفرقة ، فإذا وجد غير حليق اللحية إماماً صلى وراءه ، وإن لم يجد صلى خلفه ولو كان حالقاً للحيته، وصلاته صحيحة ، وبهذا يعلم أن الفتوى المذكورة في السؤال غير صحيحة " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (7 / 370-371)
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
ما حكم الصلاة خلف الإمام حالق اللحية ومسبل الثوب ؟
فأجاب بقوله : " إن حصل إمام أتقى لله منه فالصلاة خلفه أولى بلا شك، وإن لم يحصل، أو دخلت مسجد جماعة وكان الذي يصلي بهم هو هذا الرجل الحليق أو المسبل فلا حرج أن تصلي خلفه ؛ لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الفاسق تصح إمامته ، وإن كان الأتقى أولى منه " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (13 / 625) .
وينظر جواب السؤال رقم : (13465) ، (46557) .
والله تعالى أعلم .