أخبر الرسول أن المصورين أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، فهل إذا رجحت سيئات شخص على حسناته بسيئة واحدة وهي التصوير وشاء الله تعذيبه هل يكون أشد ممن رجحت بآلاف السيئات من زنا وربا وغيره أم أن الحديث على وجه التهديد ؟ .
الحمد لله.
المصورون الذين يرسمون ذوات الأرواح ، أو يصنعون التماثيل من أي مادة كانت ، هم
المقصودون بأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة .
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ المصُوِّرُونَ)
رواه البخاري (5606) ومسلم (2109) .
والمصوِّر له حالان :
الأولى : تكون سيئة التصوير أعظم من الربا والزنى ؛ وذلك بحسب نيته وفعله ، فمن قصد
بتصويره مضاهاة خلق الله وأن تصويره أعظم من تصوير الله تعالى أو مثله ، أو أنه
صوَّر أصناماً لعابديها : كانت سيئته – والعياذ بالله – كفراً مخرجاً من الملة ،
وحينئذٍ لا يكون هناك إشكال في كونه (أشدّ النَّاسِ عَذَاباً) وأشد من الزاني
والمرابي .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وأجاب الطبري بأن المراد هنا : مَن يصوِّر ما يُعبد من دون الله وهو عارف بذلك
قاصد له ، فإنه يكفر بذلك ، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون ، وأما من لا يقصد ذلك
: فإنه يكون عاصياً بتصويره فقط" انتهى .
"فتح الباري" (10/383) .
وقال بدر الدين العيني رحمه الله :
"فإن صوَّرها لتُعبد أو لمضاهاة خلق الله تعالى : فهو كافر قبيح الكفر ، فلذلك زيد
في عذابه" انتهى .
"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (12/39) .
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله :
"والمضاهاة بخلق الله جل وعلا التي رُتب عليها أن يكون فاعلها أشد الناس عذاباً يوم
القيامة عند كثير من العلماء : محمولة على المضاهاة التي تكون كفراً ؛ لأن المضاهاة
في التصوير يكون كفراً في حالتين :
الحالة الأولى : أن يصوِّر صنماً ليعبد ، أو يصوِّر إلهاً ليعبد ، كأن يصور لأهل
البوذية صورة بوذا ، أو يصور للنصارى المسيح ، أو يصور أم المسيح ونحو ذلك ، فتصوير
ما يعبد من دون الله جل وعلا مع العلم بأنه يُعبد : هذا كفر بالله جل وعلا ؛ لأنه
صوَّر وثناً ليعبد ، وهو يعلم أنه يُعبد ، فيكون شركاً أكبر ، وكفراً بالله جل وعلا
.
والحالة الثانية : أن يصوِّر الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله جل وعلا فيقول :
هذه أحسن من خلق الله ، أو أنا فقتُ في خلقي وتصويري ما فعل الله جل وعلا ، فهذا
كفر أكبر ، وشرك أكبر بالله جل جلاله .
وهذا هو الذي حمل عليه هذا الحديث ، وهو قوله : ( أشد الناس عذابا يوم القيامة الذي
يضاهئون بخلق الله ) ، وأما المضاهاة بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة ، كالذي
يرسم بيده ، أو ينحت التمثال ، أو ينحت الصورة مما لا يدخل في الحالتين السابقتين :
فهو كبيرة من الكبائر ، وصاحبها ملعون ومتوعد بالنار" انتهى .
"التمهيد لشرح كتاب التوحيد" (ص 559 ، 560) .
الحالة الثانية : أن لا يقصد بالصورة مضاهاة خلق الله
، ولا أن تعبد تلك الصور ، فهذا لا شك قد فعل شيئاً محرماً ، ولكنه ليس هو المقصود
بكونه أشد الناس عذاباً ، على سبيل العموم ، ولا يقال فيه : إنه أشد من الربا
والزنا .
وقد أجاب العلماء عن إطلاق "الأشدية" في العذاب هنا ، بأجوبة ، منها :
1- أن المراد بالوعيد فيه من قصد المضاهاة ، أو أن تعبد صورته من دون الله ، كما
سبق ذكره في الحالة الأولى .
2- ليس المقصود بالحديث إطلاق أنه أشد الناس على وجه العموم ، بل المراد أنه من
جملة الذين يعذبون أشد العذاب ؛ فلا ينافي ذلك أن يشترك غيره معه في ذلك العذاب
الأشد ، ويدل على ذلك ما رواه البخاري (6109) ومسلم (2107) : ( إِنَّ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ )
فتحمل الرواية المطلقة بدون (من) ، على هذه الرواية ؛ ويدل على ذلك ما رواه أحمد
(3858) : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا ، وَإِمَامُ
ضَلَالَةٍ ، وَمُمَثِّلٌ مِنْ الْمُمَثِّلِينَ ) والممثل : المصور ، فدل هذا الحديث
على اشتراكه مع آخرين في هذا العذاب الأشد.
3- أن المراد بإطلاق : ( أشد الناس .. ) من يشاركه في جريمته ؛ فيطلق المفاضلة بين
كاذب وكاذب ، وزان وزان ، ومصور ومصور ، وهكذا بحسب حاله وعمله وقصده.
وينظر : "فتح الباري" للحافظ ابن حجر رحمه الله
(10/383) ، "القول المفيد على كتاب التوحيد" ، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/444 ،
445) .
والخلاصة :
أن هناك حالات للمصور يكون فيها عذابه أشد من عذاب الزاني والمرابي ، وحالات أخرى
لا يكون كذلك .
والله أعلم