الحمد لله.
قال الشيخ محمد الأمين
الشنقيطي رحمه الله :
" أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده ، وقرن بذلك الأمر
بالإحسان إلى الوالدين ، وجعْلُه برَّ الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا
المذكور هنا : ذَكَرَه في آيات أخر ، كقوله في سورة " النساء " : ( وَاعْبُدُوا
اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ، وقوله في
البقرة ( وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ، وقوله في سورة لقمان : ( أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ، وبيَّن في موضع آخر أن برَّهما لازم ولو
كانا مشركين داعيين إلى شركهما ، كقوله في " لقمان " : ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى
أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ، وَصَاحِبْهُمَا
فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) ، وقوله في " العنكبوت " : ( وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُم ) الآية .
وذِكْرُه جل وعلا في هذه الآيات برَّ الوالدين مقروناً بتوحيده جل وعلا في عبادته :
يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين " انتهى من "أضواء البيان" ( 3 / 85 ) .
ولذا فإن الواجب عليك بر
والديْكِ ، والإحسان إليهما ، وبذل النصيحة لهما ، والسعي للتوفيق بينهما ، فإن
أصرا على الطلاق ، لم يسقط حق أحدهما في البر مهما كان مخطئا .
وينبغي أن تبين بوضوح لهما أنك مقيم على برهما ، مجتهد في الإحسان إليهما ، تنأى
بنفسك عن الميل إلى طرف على حساب الآخر ، وعن سماع الادعاءات والاتهامات التي تقسي
قلبك ، وتوغر صدرك ، ولا فائدة من سماعها مع اختيارهما الانفصال .
واعلم أن للأم ثلاثة أضعاف ما للأب من حسن الصحبة ، دون تقصير في حق الأب .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ
أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ : ( أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ
ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ
أَبُوكَ ) رواه البخاري ( 5626 ) ومسلم ( 2548 ) .
قال النووي رحمه الله : " وفيه الحث على بر الأقارب ، وأن الأم أحقهم بذلك ، ثم
بعدها الأب ثم الأقرب ، فالأقرب ، قال العلماء : وسبب تقديم الأم : كثرة تعبها عليه
، وشفقتها ، وخدمتها ، ومعاناة المشاق في حمله ، ثم وضعه ، ثم إرضاعه ، ثم تربيته ،
وخدمته وتمريضه ، وغير ذلك ، ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل
في البر على الأب ، وحكى القاضي عياض خلافا في ذلك ؛ فقال الجمهور بتفضيلها وقال
بعضهم يكون برهما سواء ، قال ونسب بعضهم هذا إلى مالك ، والصواب : الأول ؛ لصريح
هذه الأحاديث في المعنى المذكور والله أعلم" انتهى من "شرح مسلم" (16/ 102) .
سئل الشيخ محمد بن صالح
العثيمين رحمه الله : شاب يبلغ الخامسة والعشرين من العمر ، والدي ووالدتي في خصام
مستمر طول أيامهما ، إن بررت بالأول : غضب ونفر الثاني ، إن بررت الثاني : غضب
الأول ، واتهمني بالعقوق ، ماذا أفعل يا فضيلة الشيخ لكي أبرهما ؟ وهل أعتبر عاقّاً
بالنسبة لأمي بمجرد أنني بررت بأبي أو العكس ؟
فأجاب : " الإجابة على هذا أن نقول : إن بر الوالدين من أوجب الواجبات التي تجب
للبشر على البشر ؛ لقول الله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا ) ، وقوله تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ،
وقوله تعالى ( إن اشكر لي ولوالديك إلى المصير ) ، والأحاديث في هذا كثيرة جدّاً ،
والواجب على المرء أن يبر والديه كليهما : الأم والأب ، يبرهما بالمال ، والبدن ،
والجاه ، وبكل ما يستطيع من البر حتى إن الله تعالى قال : ( ووصينا الإنسان بوالديه
حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير . وإن
جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) ،
فأمر بمصاحبة هذين الوالدين المشركين اللذين يبذلان الجهد .. في أمر ولدهما بالشرك
ومع ذلك أمر الله أن يصاحبهما في الدنيا معروفاً ، وإذا كان ذلك كذلك : فالواجب
عليك نحو والديك اللذين ذكرت أنهما في خصام دائم ، وأن كل واحد منهما يغضب عليك إذا
بررت الآخر ، الواجب عليك أمران :
الأول : بالنسبة للخصام الواقع بينهما : أن تحاول الإصلاح بينهما ما استطعت ، حتى
يزول ما بينهما من الخصام والعداوة والبغضاء ؛ لأن كل واحد من الزوجين يجب عليه
للآخر حقوق لابد أن يقوم بها ، ومن بر والديك أن تحاول إزالة هذه الخصومات حتى يبقى
الجو صافياً ، وتكون الحياة سعيدة .
وأما الأمر الثاني : فالواجب عليك نحوهما أن تقوم ببر كل واحد منهما ، وبإمكانك أن
تتلافى غضب الآخر إذا بررت صاحبه بإخفاء البر عنه ، وتبر أمك بأمر لا يطلع عليه
والدك ، وتبر والدك بأمر لا تطلع عليه أمك ، وبهذا يحصل المطلوب ، ولا ينبغي أن
ترضى ببقاء والديك على هذا النزاع ، وهذه الخصومة ، ولا على هذا الغضب إذا بررتَ
الآخر ، والواجب عليك أن تبين لكل واحد منهما أن بر صاحبه لا يعنى قطيعته ، أي :
قطيعة الآخر بل كل واحد منهما له من البر ما أمر الله به " انتهى من "فتاوى
إسلامية" (4/ 196) .
وإذا أصر الوالدان على هذه الخصومة ، فالذي نراه أن تعرض عن الدخول فيها من الأصل ،
خاصة وأنك نصحتهما من البداية .
زادك الله برا وتوفيقا ، وهدى والديك وأصلح حالهما .
والله أعلم .