مات أبوهم وعليه دين قد أوصاهم بقضائه فهل يجوز لهم تأخير قضائه ؟
توفي قريب لي وترك دينا ، وقبل وفاته كان قد أوصى أبنائه بقضاء هذا الدين , فهل إذا تأخر الأبناء في قضائه ، ولم يؤدوه ، فهل علي المتوفي شيء ؟
الجواب
الحمد لله.
فإذا مات الميت وترك مالا فالواجب على ورثته أن يبدؤوا بتجهيزه وتكفينه من التركة ,
ثم بعد ذلك يلزمهم إخراج الديون , ثم إخراج الوصايا من ثلث التركة , كل ذلك قبل
قسمة التركة , والدليل على ذلك قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ...." إلى قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) النساء/11 .
قال القرطبي في تفسيره (5 / 61) " ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ، فإذا مات
المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون
على مراتبها ، ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان في معناها على مراتبها أيضا،
ويكون الباقي ميراثا بين الورثة " انتهى.
وقال الكاساني " الدَّيْن مقدَّم على الإرث قليلا كان أو كثيرا ، قال الله تبارك
وتعالى : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) النساء/ 12 " انتهى من " بدائع الصنائع
في ترتيب الشرائع " (7 / 30) .
وتقدم الديون على الوصايا , قال ابن كثير في تفسيره (2 / 201) " الدين مقدم على
الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء " انتهى.
وفي هذه الحالة يلزمهم تعجيل قضاء الدين إذا كان قد حل الأجل ولا يجوز لهم تأخيره ,
فقد روى الترمذي (1078) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ
بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) صححه الألباني في "صحيح الجامع" (6779) وغيره .
قال السندي : " أَيْ مَحْبُوسَة عَنْ الدُّخُول فِي الْجَنَّة " انتهى .
وقال في " تحفة الأحوذي " : " قَالَ السُّيُوطِيُّ : أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ
مَقَامِهَا الْكَرِيمِ , وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ : أَيْ أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا
حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ وَلَا هَلَاكٍ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا
مِنْ الدَّيْنِ أَمْ لَا " اِنْتَهَى .
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نيل الأوطار " (4/30) : " فيهِ الْحَثُّ
لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ , وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ
نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ " انتهى .
وقال الصنعاني :" وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ
الْمَيِّتُ مَشْغُولًا بِدَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى
التَّخَلُّصِ عَنْهُ قَبْلَ الْمَوْتِ , وَأَنَّهُ أَهَمُّ الْحُقُوقِ " .
انتهى من " سبل السلام " (1/469).
أما إذا كان الدين مؤجلا فقد قال ابن باز رحمه الله " إذا مات الإنسان وعليه دين
مؤجل فإنه يبقى على أجله إذا التزم الورثة بتسديده واقتنع بهم صاحب الدين ، أو
قدموا ضمينا مليئا أو رهنا يفي بالدين ، وبذلك يسلم الميت من التبعة إن شاء الله "
انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (19/305) .
أما إذا لم يكن الميت قد ترك مالا فلا يجب على الورثة حينئذ قضاء الدين, قال شيخ
الإسلام ابن تيمية : " فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه لكن يقضى من تركته ".
انتهى من " منهاج السنة " ( 5/ 232 ).
ووصية الأب لأبنائه بقضاء دينه لا توجب على الأبناء تنفيذها إذا لم يكن للميت مال
بل يستحب لهم تنفيذها ؛ لأن في ذلك برا بأبيهم بعد موته , جاء في سنن أبي داود
(5142 ) عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال : " بينا نحن عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم : إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي
شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال: ( نعم الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ
عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما" .
مع التنبيه على أن من مات وعليه دين قد استدانه في حق ولم يترك له وفاء لفقره
وعسرته فإنه لا يدخل - إن شاء الله - في الوعيد السابق ولا يكون دينه سببا في حبسه
عن الجنة .
يقول ابن عبد البر في "التمهيد" (23/238) : " والدين الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن
الجنة ، والله أعلم ، هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به ، أو قدر على الأداء فلم
يؤد ، أو ادَّانه في غير حق ، أو في سرف ومات ولم يؤده .
وأما من ادَّان في حق واجب لفاقةٍ وعسرةٍ ، ومات ولم يترك وفاء ، فإن الله لا يحبسه
به عن الجنة إن شاء الله " انتهى .
وسئل علماء اللجنة الدائمة : من مات وعليه دين لم يستطع أداءه لفقره هل تبقى روحه
مرهونة معلقة ؟
فأجابوا : " أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) .
وهذا محمول على من ترك مالاً يقضى منه دينه ، أما من لا مال له يقضى منه فيرجى ألا
يتناوله هذا الحديث ؛ لقوله سبحانه وتعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا ) ، وقوله سبحانه: ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ ) .
كما لا يتناول من بيّت النية الحسنة بالأداء عند الاستدانة ، ومات ولم يتمكن من
الأداء ؛ لما روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها
يريد إتلافها أتلفه الله ) "
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (8/344) .
والله أعلم .