الحمد لله.
الإجماع والقياس كلاهما من
الأدلة الإجمالية التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية , والإجماع مرتبته في الأدلة
الشرعية تقع بعد الكتاب والسنة .
وهو في اللغة يطلق بالاشتراك على معنيين أحدهما: العزم قال الله تعالى " فأجمعوا
أمركم " يونس/ 71.
وثانيهما : الاتفاق ، يقال: أجمعت الجماعة على كذا إذا اتفقوا عليه .
وأما في الاصطلاح : فقد عرفه - الزركشي – رحمه الله – بقوله " هو اتفاق مجتهدي أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في حادثة على أمر من الأمور في عصر من
الأعصار" انتهى من " البحر المحيط " للزركشي (6 / 379).
فعلم من هذا التعريف أن الإجماع لا بد فيه من شروط وهي :
أولها: أن يقع الاتفاق من مجتهدي أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم , فخرج به
اتفاق الأمم السابقة .
ثانيها: أن يكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , إذ لا عبرة بالإجماع في حياته
.
ثالثها: قوله " في عصر من الأعصار"؛ ليرفع وهم من يتوهم أن المراد بالمجتهدين من
يوجد إلى يوم القيامة ، وهذا التوهم باطل ، فإنه يؤدي إلى عدم تصور الإجماع.
والإجماع حجة شرعية ؛ لأنه مبني على عصمة الأمة ، وأنها لا تجتمع على ضلالة وهذا
ثابت بنصوص السنة المطهرة , فقد روى الترمذي (2167) عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يجمع أمتي - أو قال : أمة محمد صلى الله عليه
وسلم - على ضلالة " صححه الألباني في " صحيح الجامع الصغير " برقم (1848).
وأخرج أحمد في مسنده (27224) عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سألت ربي عز وجل أربعا فأعطاني
ثلاثا ومنعني واحدة : سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها" .
وقد أشارت بعض النصوص القرآنية إلى تقرير ذلك الأصل أيضا ؛ فمن ذلك قوله تعالى : (
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى
ونصله جهنم وساءت مصيرا ) النساء/ 115 ، فقد أوجب بهذه الآية الكريمة اتباع سبيل
المؤمنين ، وحظر مخالفتهم ، فدل على صحة إجماعهم ، لأنه لو جاز عليهم الخطأ لكان
المأمور باتباعهم ، مأمورا باتباع الخطأ، وما أمر الله باتباعه لا يكون إلا حقا
وصوابا.
يراجع: " الفصول في الأصول" (3/262) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية " إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم
يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب ؛
أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى ؛ أو خلقه بباطل : لكانوا متصفين بالأمر
بمنكر والنهي عن معروف" انتهى من " مجموع الفتاوى "(28 / 125).
فعلم من هذا أن الأمة المحمدية قد عصمها الله سبحانه من أن تجتمع على ضلالة أو خطأ ، وهذا له سر بينه الزركشي بقوله : " والسر في اختصاص هذه الأمة بالصواب في الإجماع أنهم الجماعة بالحقيقة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الكافة ، والأنبياء قبله إنما بعث النبي لقومه ، وهم بعضٌ من كلٍّ ، فيصدق على كل أمة أن المؤمنين غير منحصرين فيهم في عصر واحد ، وأما هذه الأمة فالمؤمنون منحصرون فيهم ، ويد الله مع الجماعة، فلهذا - والله أعلم - خصها بالصواب" انتهى من البحر المحيط (6 / 396).
أمثلة للإجماع :
والإجماع ليس له أمثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما سبق بيانه من أن
الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , قال الآمدي "وإجماع
الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن الوحي ، بالإجماع , وإنما يكون حجة بعد
النبي عليه السلام" انتهى من " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي (1 / 213).
أما أمثلته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة , منها على سبيل المثال:
إجماع أهل العلم على تحريم بناء الكنائس في بلاد المسلمين , وقد نقل هذا الإجماع
شيخ الإسلام ابن تيمية , جاء في " الفروع وتصحيح الفروع " (10 / 338) " ويمنعون من
إحداث الكنائس والبِيَع , ذكره شيخنا (ابن تيمية) إجماعا" انتهى, وجاء في " الإنصاف
في معرفة الراجح من الخلاف " للمرداوي (4 / 236): " ويمنعون من إحداث الكنائس
والبيع ، قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: إجماعا ، واستثنى الأصحاب ما اشترطوه
فيما فتح صلحا على أنها لنا " انتهى ، ونقله أيضا السبكي , جاء في " فتاوى السبكي "
(2 / 369): " فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع " انتهى.
والأمثلة المعاصرة على الإجماع متعددة , منها: إجماع علماء المسلمين على حرمة تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم وسائر أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم في الأفلام والمسلسلات , وقد ذكر هذا الإجماع الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله حيث قال :" أجمع القائلون بالجواز المقيد ، على تحريمه – أي التمثيل - في حق أنبياء الله ورسله - عليهم والصلاة والسلام - وعلى تحريمه في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم ، وولده - عليهم السلام - وفي حق الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم –" انتهى من " حكم التمثيل "(1 / 43).
وأما القياس :
فهو دليل تؤخذ منه الأحكام الشرعية , ومنزلته بعد الإجماع , وهو في اللغة يطلق على
التقدير والمساواة , وأما في الاصطلاح فقد عرفه ابن قدامة بقوله : "حمل فرع على أصل
في حكم بجامع بينهما" انتهى من " روضة الناظر وجنة المناظر " (2 / 141).
ومعنى الحمل في قوله : ( حمل فرع على أصل ) الإلحاق والتسوية بينهما في الحكم .
وللقياس أربعة أركان : الأصل , والفرع , والحكم , والعلة الجامعة .
وتوضيح هذه الأركان بالمثال التالي , فإذا قلنا مثلا : النبيذ مسكر ، فكان حراما
كالخمر؛ فإن الأصل هو الخمر ، ويسمى المقيس عليه , وهو الواقعة أو العين التي ورد
النص أو الإجماع بحكمها.
والفرع هو النبيذ ويسمى المقيس , وهو الواقعة التي لم يأت نص ولا إجماع بحكمها ,
ويراد بيان حكمها الشرعي .
والحكم هو التحريم , ومعنى ذلك: أن يكون الحكم الذي ثبت في الأصل بنص أو إجماع من
حرمة وغيرها , يراد نقله إلى الفرع الذي لم يرد فيه دليل عن الشارع بعينه .
والعلة الجامعة هي الإسكار, وتعرَّف العلة بأنها الوصف الظاهر المنضبط الذي بنى
عليه الشارع الحكم في الأصل .
هذا وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم القياس في فتاواه لينبه الناس عليه
ويعلمهم به , فمن ذلك :
ما أخرجه البخاري (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن امرأة من جهينة، جاءت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ،
أفأحج عنها؟ ، قال: ( نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية ؟ اقضوا
الله فالله أحق بالوفاء ) .
ومنها ما أخرجه مسلم (1148) عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن امرأة أتت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، فقال: ( أرأيت لو كان
عليها دين أكنت تقضينه ؟ ) ، قالت : نعم، قال: ( فدين الله أحق بالقضاء ) .
جاء في " الفصول في الأصول "(4 / 48) "...... ومنه حديث ابن عباس : " أن رجلا أتى
النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال : إن أبي شيخ كبير لم يحج ، أفأحج عنه؟ ، قال: (
أرأيت لو كان على أبيك دين ، أكنت تقضيه ؟ ) قال : نعم ، قال: ( فحج عنه ) ، وحديث
الخثعمية حين سألت النبي - صلى الله عليه وسلم – فقالت : " إن أبي أدركته فريضة
الله في الحج ، وهو شيخ كبير ، لا يستمسك على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ فقال : ( أرأيت
لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان يجزي ؟ ) ، قالت: نعم ، قال: ( فدين الله أحق )
، وروى ابن عباس : " أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: إن أختي
نذرت أن تحج فماتت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( أرأيت لو كان عليها
دين أكنت قاضيه؟ ) ، قال: نعم ، قال : ( فاقضوا الله ، فإنه أحق بالوفاء ) ، وفي
هذه الأخبار إثبات المقايسة ، والتنبيه على الرد إلى النظائر ، وروي عن محمد بن
المنكدر : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قضاء رمضان أيفرَّق ؟
فقال: ( أرأيتم لو كان لرجل على رجل دين ، فقضاه أولا فأولا ؟ ) قال: لا بأس، قال:
( فالله أحق بالتجاوز ) . فقايسه وأراه موضع الشبه والنظير.
ومنه: حديث : "عمر قال هششت فقبَّلت وأنا صائم ، فقلت: يا رسول الله ، صنعت اليوم
أمرا عظيما ، قبَّلت وأنا صائم ، قال : ( أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ ) ، قلت
: لا بأس به ، قال: ( ففيم إذًا ) فقايسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورده
إلى نظيره ، ثم نبهه على وجه الرد" انتهى باختصار.
وأما تطبيقات القياس
المعاصرة فمنها: قياس البصمة الوراثية على القافة في معرفة النسب , فقد ذهبت
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية من خلال ندوتها الحادية عشرة المتعلقة بالهندسة
الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني ، المقامة في الكويت في الفترة الممتدة
بين 23-25 جمادى الثانية 1419 هـ/ الموافق 13-15 أكتوبر 1998 م إلى أن : " البصمة
الوراثية من الناحية العلمية ، وسيلة لا تكاد تُخطئ في التحقق من الوالدية
البيولوجية ، والتحقق من الشخصية ، ولاسيما في مجال الطب الشرعي ، وهي ترقى إلى
مستوى القرائن القاطعة التي أخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ،
وقد أَيَّدَ هذا الموقف المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، في
دورته السادسة عشر التي انعقدت في مكة المكرمة في الفترة المنصرمة من 21 - 26 شوال
1421 هــ شريطة استيفاء شروطها الكاملة؛ حيث جاء في توصياته أن : " البصمة الوراثية
إذا استوفت الشروط الكاملة ، واجتنبت الأخطاء البشرية ؛ فإن نتائجها تكاد تكون
قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، أو نَفْيِهم عنهما.
ومنها: قياس أخذ كمية من الدم بالنسبة للصائم على الحجامة , كما بيناه في الفتوى
رقم: (50406) .
والله أعلم.