الحمد لله.
أولا :
ما دفعه الأبناء الثلاثة من أموالهم الخاصة في تشطيب الشقق أو "كسوتها" على حد
تعبير السؤال ، هو حق خاص لهم ، لا يدخل في التركة التي تركها والدهم والتي تقسم
على الورثة .
ولكن ينبغي التنبه إلى أن الحق الذي يجب أن يحفظ لكل واحد منهم هو بحدود شقته وما
أنفقه فحسب ، من غير سمائها ولا أرضها ، بل يبقى سقف البناء وأرضه المشتركة تركة
تقسم بين الورثة القسمة الشرعية ، وقد سبق بيان هذا في عدد من الفتاوى ، ينظر منها
: (131901) ، (182290)
، (184120) ، (193143).
ثانيا :
لا يجوز للوالد أن يخص بعض أولاده بالهبة ، بل الواجب عليه أن يعدل بين جميع أولاده
، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ
أَوْلاَدِكُمْ ) . رواه البخاري (2587) ، ومسلم (1623) .
فإن حصل تفضيل لبعض الأولاد فالواجب إبطال ذلك وإلغاؤه ، سواء كان ذلك في حياة
الوالد أو بعد وفاته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن فضل بعض أولاده على بعض :
" والصحيح من قولي العلماء أنه يجب عليه أن يرد ذلك في حياته ، كما أمر النبي صلى
الله عليه وسلم ، وإن مات ولم يرده رُدَّ بعد موته على أصح القولين أيضا ، طاعة لله
ولرسوله ، واتباعا للعدل الذي أمر به ، واقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولا
يحل للذي فضل أن يأخذ الفضل ، بل عليه أن يقاسم إخوته في جميع المال بالعدل الذي
أمر الله به ، والله سبحانه وتعالى أعلم" انتهى من " الفتاوى الكبرى " (4/184) .
وعلى هذا ، فالشقق التي أخذها الأبناء الثلاثة يجب أن ترد إلى التركة وتقسم على
جميع الورثة ، ولكنها ترد على أنها لم تكن جاهزة ، فيحفظ لكل ابن الأموال التي
أنفقها لتجهيز الشقة .
وتحديد هذا بدقة قد يكون متعذرا أو صعبا للغاية ، ففي هذه الحالة لا بد من التفاهم
والتراضي بين الورثة .
ثالثا:
أما الزوجة فلها نصف الشقة ملكا لها ، مقابل ما دفعته من مال لزوجها في حياته .
وأما النصف الآخر للشقة فليس هذا بوصية حتى يقال : (لا وصية لوارث) . وإنما هو
تحديد لنصيبها من الإرث ، وهو الثمن ، فإن رضيت هي وجميع الورثة أن تأخذ نصف الشقة
مقابل حقها من التركة فلا حرج في ذلك ، وإن تنازعوا فإنها يكون لها ثمن التركة ،
وهذا النصف المتنازع عليه يدخل في التركة ويقسم على جميع الورثة .
رابعا :
إذا كان بالإمكان تسجيل البناء بوجه رسمي ليصار إلى قسمته القسمة الشرعية ، فهو
أولى وأوجب ، وذلك أن البناء من مال الوالد الخاص وتركته ، ولا ينطبق عليه وصف (
الأميري )، فالواجب تقسيمه القسمة الشرعية ، فإن لم يتحقق ذلك إلا بالتسجيل الرسمي
وجب ، كي لا تضيع الحقوق .
أما إذا لم يكن التسجيل الرسمي متاحا بعد وفاة الوالد ، فلا مفر من قبول التقسيم (
الأميري )، ثم بعد ذلك يقوم الأبناء فيما بينهم بتقسيم العقار الذي بناه الوالد من
ماله فقط ، بحيث يقسم قسمة التركة ، وليس القسمة ( الأميرية ).
أما الأرض المسجلة ( أميرية ) فلا بأس بقبول التقسيم القانوني لها ، وذلك أن معنى
كونها ( أميرية ) أنها ليست ملكا متمحضا لأحد ، وإنما هي مخصصة من قبل الدولة لهذا
الإنسان لينتفع بها طيلة حياته ، وتبقى ملكيتها للدولة ، وبعد وفاته تفعل بها
الدولة ما تشاء ، سواء بقسمتها بين الورثة بالطريقة التي تراها ، أو بتخصيص بعض
الورثة بها دون الآخرين ، أو باسترجاعها ومنحها لجهة أخرى ، فتقسيم ( الأراضي
الأميرية ) بين الذكور والإناث بالتساوي جائز لا بأس به ؛ لأنه يقع على وجه الهبة
من الدولة ، وليس على وجه " تقسيم التركة "، وهذا أمر معلوم ومشهور في بلاد الشام .
قال الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله :
" الأراضي الأميرية الزِّراعية التي لم يَصل إليها العُمران ، قد أَوْجَب فيها
قانون انتقالات الأموال غير المنقولة الصادر في العهد العثماني ، أن يُعطَى وليُّ
الأمر فيها بمقتضى هذا القانون حقًّا في التصرف بها ( بدون مِلكية الرَّقبة )،
ويَنتقل حق التصرف هذا إذا تُوفِّيَ المتصرِّف ذو اليَدِ إلى الأولاد ، وأحد
الزوجين ، بنسبة تختلف عن الإرْث ، فالأولاد يَتساوَى الذكور والإناث .
وقد خَرَّجت المشيخة الإسلامية هذا القانون تخريجًا شرعيًّا ، باعتبار أنَّ هذا
الانتقال ليس إرْثًا ؛ ليكون مخالفًا للإرث الشرعي ، وإنما هو انتقال التصرف في أرض
لا تزال رقبتها ملكًا للدولة ، ولم تَدخل في ملك الأفراد ، وطريقة انتقال هذا
التصرف يَعود ترتيبها إلى وليّ الأمر ( الخليفة ). وقد رأى ولي الأمر بهذا القانون
أنْ يَتساوى الأولاد ذكورًا وإناثًا ؛ لأنهم يعملون مع آبائهم وأمهاتهم في الأراضي
الزراعية بصورة متساوية . فرأي ولي الأمر في ذلك مقبولٌ شرعًا ، وهو مَبنيٌّ على
المصلحة العامة التي يُعود إليه تقديرها وَفقًا للقاعدة الشرعية : إنَّ التصرُّف
على الرَّعيَّة مَنُوطٌ بالمصلحة ، وليس تغييرًا لنظام الإرث في الأملاك الخاصة " .
انتهى من " فتاوى الزرقا " (ص/146، بترقيم الشاملة آليا) .
وقد سبق لكل من دور الإفتاء المصرية والفلسطينية والأردنية ، وكثير من علماء الشام
، إصدار الفتاوى التي تشرح هذه القضية ، وتبين صحة العمل بالتقسيم ( الأميري ) أو
باللغة العامية (المِيري)، بناء على التخريج السابق . للمراجعة ، ينظر على سبيل
المثال :
http://www.aliftaa.jo/Question.aspx?QuestionId=2899#.U272YoGSzng
هذا وقد مر قانون الأراضي
الأميرية بمراحل كثيرة في الدولة العثمانية ، تفاوتت فيها القسمة ما بين زمان وزمان
، ثم بعد انتهاء الخلافة ، آل الأمر إلى الدول الإسلامية المتفرقة التي ورثت هذا
القانون وتطبيقاته ، فاستمرت بعض الدول على ما استقر عليه القانون العثماني ،
وبعضهم غير وبدل .
وللاطلاع على تفاصيل مراحل التقسيم ( الأميري ) يمكن الرجوع إلى كتاب " الفريدة في
حساب الفريضة " (172-206) للشيخ محمد نسيب البيطار رحمه الله ، قاضي القدس الشرعي
الأسبق .
والله أعلم .