الحمد لله.
لا بد في أداء الشهادة من القطع بالمشهود به ، فلا يصح الشهادة بما يُشَك فيه ، ولا
بما يغلب على الظن ، جاء في " المبسوط " للسرخسي (16 / 116) : " وَلَا يَجُوزُ فِي
شَيْءٍ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ ، وَلَمْ يَسْمَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ
لَهُ بِالشُّهُودِ بِهِ ، وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
[الزخرف: 86] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا
عَلِمْنَا ) [يوسف: 81] ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُعْلِمُ الْقَاضِيَ
حَقِيقَةَ الْحَالِ ، وَيُمَيِّزُ الصَّادِقَ الْمُخْبِرَ مِنْ الْكَاذِبِ ، وَلَا
يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، وَطَرِيقُ العلم :
الْمُعَايَنَةُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يُعَايَنُ ، وَالسَّمَاعُ إذَا
كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْمَعُ ، كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّ" انتهى .
وفي " المقدمات الممهدات " (2 / 271): " لا تصح الشهادة إلا بما يعلم ويقطع على
معرفته ، لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته ، قال الله عز وجل : (
وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا ) [يوسف: 81] " انتهى .
وفي " الذخيرة " للقرافي (10 / 156) : " ( مستند الشاهد ) : الأصل فيه العلم اليقين
، لقوله تعالى ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) ، وقوله تعالى ( وما شهدنا إلا بما
علمنا )" انتهى.
وفي " الأم " للشافعي (7 / 96) : " وَمَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ
فَعَلَهُ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ أَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ يُثْبِتُهُ بِمُعَايَنَةٍ ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ
يُثْبِتُهُ سَمْعًا ، مَعَ إثْبَاتِ بَصَرٍ حِينَ يَكُونُ الْفِعْلُ " انتهى.
فإن شهد الشاهد بما لم يتيقنه : كان آتيا بشهادة زور ، وشهادة الزور من كبائر
الذنوب التي توجب غضب الله سبحانه وسخطه ، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ) ، قلنا : بلى يا
رسول الله ، قال : ( الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ) ، وكان متكئاً فجلس فقال : (
ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ، ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ) ، فما زال يقولها
حتى قلت لا يسكت " رواه البخاري ( 5631 ) ، ومسلم ( 87 ) .
جاء في " سبل السلام " (2 / 585) : " وَإِنَّمَا اهْتَمَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْبَارِهِمْ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَجَلَسَ ،
وَأَتَى بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ ، وَكَرَّرَ الْإِخْبَارَ ؛ لِكَوْنِ قَوْلِ
الزُّورِ ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ : أَسْهَلَ عَلَى اللِّسَانِ ، وَالتَّهَاوُنِ
بِهَا أَكْثَرَ ؛ وَلِأَنَّ الْحَوَامِلَ عَلَيْهِ ( قول الزور) كَثِيرَةٌ مِنْ
الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا ، فَاحْتِيجَ إلَى الِاهْتِمَامِ
بِشَأْنِهِ ، بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ ، فَإِنَّهُ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ
الْمُسْلِمِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَتَعَدَّى مَفْسَدَتُهُ إلَى غَيْرِ الْمُشْرِكِ ،
بِخِلَافِ قَوْلِ الزُّورِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى مَنْ قِيلَ فِيه " انتهى.
وأخرج أبو داود (3599) ، والترمذي (2300) ، وابن ماجه (2372) عَنْ خُرَيْمِ بْنِ
فَاتِكٍ الأسدي ، قَالَ : " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا فَقَالَ: (
عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ ) ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ
قَرَأَ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج: 31] " . – والحديث : ضعفه
الألباني في" السلسة الضعيفة " (1110) .
واعلم أيها السائل أن شهادة الزور محرمة حتى ، وإن كان يقصد بها إحقاق حق ، لأن
إحقاق الحق وإن كان غاية مشروعة محمودة ، إلا أن الوسيلة إليه أيضا لا بد وأن تكون
مشروعة محمودة ، وشهادة الزور أمر منكر محرم ، فلا يجوز اللجوء إليه للتوصل إلى
الحق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى الكبرى " (6 / 119) : "..
الْغُلُول وَالْخِيَانَة حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى
حَقِّهِ ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ ، وَإِنْ قَصَدَ
بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ " انتهى .
ومن هنا يُعلم : أنه لا يجوز
لهؤلاء الشهود أن يشهدوا على شيء لم يروه ، ولو كان قصدهم طيبا ، من إحقاق حق ، أو
إبطال باطل ، لكن يجوز لهم أن يشهدوا بما علموه وسمعوه من إقرار المدعين بأن هؤلاء
المتهمين برآء .
والله أعلم .