الحمد لله.
أولا:
نقل بعض الأصوليين كإمام الحرمين والغزالي وغيرهما عن الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أنه توسع في الأخذ بالمصالح المرسلة ؛ حتى أجاز قتل ثلث الأمة من أجل استصلاح الثلثين , قال الجويني الملقب بإمام الحرمين - رحمه الله - في "كتابه البرهان في أصول الفقه" (2 / 169): " ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة ؛ حتى نقل عنه الثقات أنه قال: أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها" انتهى .
وقال الغزالي في المنخول (454): " فاسترسل مالك - رضي الله عنه - على المصالح حتى رأى قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها" انتهى.
وقال في موطن آخر من نفس الكتاب (612): " فأما مالك رحمه الله فقد استرسل على المصالح استرسالا جره إلى قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها" انتهى.
ثانيا:
الذي يقتضيه المنهاج الدقيق في البحث العلمي أننا نأخذ آراء أصحاب كل مذهب من كتب أصحاب المذهب نفسه دون غيرها من الكتب , فليس من المنهج العلمي الدقيق أن نعمد إلى كتب المالكية لتحرير مذهب الشافعية – مثلا - في مسألة من المسائل , بل لو أردنا أن نحرر مذهب الشافعية في مسألة , فعلينا أن نذهب إلى كتب الشافعية أنفسهم , فهذا هو العدل , وهو ما يقتضيه المنهج العلمي الدقيق .
فإذا ذهبنا نحرر هذا النقل الذي نقله هؤلاء العلماء عن الإمام مالك - إمام دار الهجرة - من خلال كتب المذهب المالكي , لوجدنا أن فقهاء المالكية ينفونه عن الإمام مالك وينكرون نسبته إليه , ولا يثبتونه له في كتاب من كتبهم , ولنأخذ مثالا بفقيه كبير ومحقق نحرير من فقهاء المالكية وهو الإمام شهاب الدين القرافي - رحمه الله – فقد قال في "نفائس الأصول شرح المحصول" (9/ 4092): "وأما ما نقله من إباحة الدماء والأموال بما قاله ، فالمالكية لا يساعدونه على صحة هذا النقل عن مالك ، وكذلك ما نقله عن الإمام في البرهان من أن مالكاً يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين ، المالكيةُ ينكرون ذلك إنكاراً شديداً، ولم يوجد في كتبهم ، إنما هو في كتب المخالف لهم ، ينقله عنهم ، وهم لم يجدوه أصلاً". انتهى.
وقال ابن الشماع : " مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ , وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ رَوَاهُ نَقَلَتُهُ ، إنَّمَا أَلْزَمَهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ اضْطَرَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذِكْرِهِ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا اتَّضَحَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الْبُرْهَانِ" انتهى من "منح الجليل شرح مختصر خليل" (7 / 513) .
وما ذكر هنا من أن هذا النقل ، إنما ذكروه عن مالك ، على طريق : "الإلزام" ، لمذهبه ، لا على طريق النقل والراوية ، قد سبق واضحا مبينا عن الإمام أبي بكر ابن العربي المالكي ، رحمه الله ، قال : " .. نسب الخراسانيون الحنفيون والشافعيون إلى مالك : أن هلاك بعض الأمة في الاستصلاح واجب .
وهو بريء من ذلك ؛ وإنما سمعوا من قوله اعتبار المصلحة ، فاعتبروها بزعمهم حتى بلغوا بها إلى هذا الحد ، وكان من حقهم - لجلالة أقدارهم في العلم ، من سعة حفظهم ، ودقة فهمهم - أن يتفطنوا لمقصده بالمصلحة ، وأن يجروها مجراها ، ويقفوا بها حيث انتهت ...." انتهى من "القبس شرح الموطأ" (3/932) .
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – : " أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين , وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات , فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيء من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البناني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمناً طويلاً وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة " انتهى من كتاب "المصالح المرسلة" صفحة (10).
وقال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - أيضا في "مذكرة في أصول الفقه" (1 / 203): " وما ذكره المؤلف رحمه الله من أن مالكاً - رحمه الله - أجاز قتل الثلث لإصلاح الثلثين ذكره الجويني وغيره عن مالك , وهو غير صحيح , ولم يروه عن مالك أحد من أصحابه , ولم يقله مالك كما حققه العلامة محمد بن الحسن البناني في حاشيته على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل" انتهى .
وقد أنصف الإمام مالكا في ذلك : جمع المحققين من غير المالكية .
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3 / 211): " حُكِي أن مالكا أجاز قتل ثلث الخلق لاستصلاح الثلثين ، ومحافظة الشرع على مصلحتهم بهذا الطريق غير معلوم , قلت: لم أجد هذا منقولا فيما وقفت عليه من كتب المالكية ، وسألت عنه جماعة من فضلائهم، فقالوا: لا نعرفه " انتهى.
وقال الزركشي - رحمه الله – : " قال الإمام (الجويني) فِي الْبُرْهَانِ ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهِ حَتَّى جَرَّهُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ , وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنِدًا، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى الْبُرْهَانِ ": إنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ عَنْ مَالِكٍ ، هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ أَيْضًا فِي التَّحْرِيرِ عَلَى الْإِمَامِ وَقَالَ: أَقْوَالُهُ تُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ، لَا مِنْ نَقْلِ النَّاقِلِينَ" انتهى من "البحر المحيط في أصول الفقه" (8 / 84).
وقد جاء عن أحد أعلام المالكية الكبار وهو المازري ما يفهم منه تصحيح نقل الجويني عن مالك في هذه المسألة , جاء في "مواهب الجليل " (5 / 430): " قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّ مَالِكًا كَثِيرًا مَا يَبْنِي مَذْهَبَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ، وَقَدْ قَالَ: إنَّهُ يُقْتَلُ ثُلُثُ الْعَامَّةِ لِمَصْلَحَةِ الثُّلُثَيْنِ . الْمَازِرِيُّ: (وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي عَنْ مَالِكٍ صَحِيحٌ) انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ التَّوْضِيحِ وَلَكِنَّهُ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَانْظُرْ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ فِي آخِرِ شَرْحِ الْمَحْصُولِ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِكَلَامٍ حَسَنٍ، وَأَنْكَرَ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ إنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فَتَأَمَّلْهُ " انتهى.
ولكن عند التدقيق نجد أن المازري - رحمه الله - لا يقصد تصحيح القول بقتل ثلث الخلق عن مالك , بل يقصد أن يصحِّح ما جاء في أول كلام الجويني وهو أن مالكا - رحمه الله تعالى - كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح , جاء في "منح الجليل" (7 / 513): " وَقَوْلُ الْمَازِرِيِّ مَا حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي صَحِيحٌ رَاجِعٌ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ , وَهُوَ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَبْنِي مَذْهَبَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ لَا إلَى قَوْلِهِ نُقِلَ عَنْهُ قَتْلُ الثُّلُثِ " انتهى.
ولما رأى بعض علماء المالكية كثرة النقول عن مالك في هذه المسألة حاولوا تأويلها – على فرض صحة النقل – وحملوا هذا على أن المراد قتل ثلث المفسدين إذا تعين طريقا لإصلاح بقيتهم , ولكن محققي المذهب أنكروا هذا أيضا ولم يستجيزوا قتل ثلث المفسدين , جاء في "منح الجليل" (7 / 514): " وَأَمَّا تَأْوِيلُ " ز " بِأَنَّ الْمُرَادَ قَتْلُ ثُلُثِ الْمُفْسِدِينَ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِصْلَاحِ بَقِيَّتِهِمْ : فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا وَضَعَ لِإِصْلَاحِ الْمُفْسِدِينَ الْحُدُودَ عِنْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهَا، وَمَنْ لَمْ تُصْلِحْهُ السُّنَّةُ فَلَا أَصْلَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِثْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ كَثِيرًا مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُفْسِدِينَ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ الْفَسَادِ " انتهى .
وينظر أيضا للفائدة : "التحقيق والبيان في شرح البرهان" للإبياري (4/172-173) .
والله أعلم