هل يعفى عن النجاسة اليسيرة؟
هل يعفى عن النجاسة اليسيرة ؟
الجواب
الحمد لله.
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يعفى عن شيء من النجاسات إلا يسير الدم والقيح ، لأن
الأدلة لم تفرق بين كثير النجاسة وقليلها .
قال ابن قدامة : " وَلَا فَرْقَ بَيْنَ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا ،
وَسَوَاءٌ كَانَ الْيَسِيرُ مِمَّا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ [أي : يراه الإنسان بعينه]
أَوْ لَا يُدْرِكُهُ مِنْ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ ... وَقِيلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ :
إنَّ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ؛
لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِهِ " انتهى من "المغني" (1/ 46).
وهو اختيار علماء اللجنة الدائمة للإفتاء ، فقد قالوا : " النجاسة من غير الدم
والقيح والصديد لا يعفى عن كثيرها ولا قليلها.
أما الدم والقيح والصديد فيعفى عن اليسير منها إذا كان خروجاً من غير الفرج ؛ لأن
في الاحتراز من قليلها مشقةً وحرجاً ، وقد قال تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، وقال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/396) برئاسة الشيخ
ابن باز.
وذهب الحنفية إلى العفو عن يسير جميع النجاسات ، كالدم والبول وغيرهما . ينظر:
"الاختيار" (1/31).
لأن اليسير من النجاسات يشق التحرز منه ، فعفي عنه ، كرشاش البول اليسير الذي لا
يدركه الطرف إذا أصاب الثوب أو البدن.
قال ابن المنذر : " وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْبَوْلِ الْيَسِيرِ مِثْلُ رُءُوسِ
الْإِبَرِ يُصِيبُ الثَّوْبَ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَجِبُ غَسْلُ قَلِيلِ ذَلِكَ
وَكَثِيرُهُ.
وقال مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (صاحب أبي حنيفة) لَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُهُ ...
وَقَدْ .. قِيلَ لِمِسْعَرٍ: إِنَّ أَبَا يُوسُفَ (صاحب أبي حنيفة الثاني) يَقُولُ:
لَا بَأْسَ بِالْبَوْلِ إِذَا كَانَ مِثْلَ عَيْنِ الْجَرَادِ وَرُءُوسِ الْإِبَرِ
، فَجَعَلَ يَسْتَحْسِنُهُ " انتهى من "الأوسط" (2/138).
ويدل على العفو عن هذا اليسير من الرذاذ ، ما رواه مسلم (403) عَنْ أَبِي وَائِلٍ
قَالَ : كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ ، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ [
خوفًا من أن يصيبه شيء من رشاشه ] ، وَيَقُولُ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ
إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ .
فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَوَدِدْتُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا
التَّشْدِيدَ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَمَاشَى ، فَأَتَى سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ ، فَقَامَ كَمَا
يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُ
فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ .
قال النووي : " مَقْصُود حُذَيْفَة أَنَّ هَذَا التَّشْدِيد خِلَاف السُّنَّة ;
فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ قَائِمًا ، وَلَا شَكّ
فِي كَوْن الْقَائِم مُعَرَّضًا لِلرَّشِيشِ ، وَلَمْ يَلْتَفِت النَّبِيّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الِاحْتِمَال ، وَلَمْ يَتَكَلَّف الْبَوْل
فِي قَارُورَة كَمَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " انتهى من "شرح
صحيح مسلم" (3/167) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ ، حَتَّى
بَعْر فَأْرَةٍ ، وَنَحْوِهَا فِي الْأَطْعِمَةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَلَوْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَةُ طِينِ الشَّارِعِ عُفِيَ عَنْ
يَسِيرِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ ، .. وَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُبَارِ
السِّرْجِينِ (هو الروث النجس) وَنَحْوِهِ ، وَلَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ :
عُفِيَ عَنْهُ ". انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5/ 313).
وقال الكاساني الحنفي: " وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ مِمَّا لَا
يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، فَإِنَّ الذُّبَابَ يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَةِ ،
ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى ثِيَابِ الْمُصَلِّي ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى
أَجْنِحَتِهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ
عَفْوًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ " انتهى من " بدائع الصنائع" (1/79) .
وقال الشيخ ابن عثيمين : " والصَّحيح : ما ذهب إِليه أبو حنيفة ، وشيخ الإِسلام ...
ومن يسير النَّجاسات التي يُعْفَى عنها لمشَقَّةِ التَّحرُّز منه : يسير سَلَسِ
البول لمن ابتُلي به ، وتَحفَّظ تحفُّظاً كثيراً قدر استطاعته " انتهى من "الشرح
الممتع" (1/ 447).
وهذا القول هو الموافق ليسر الشريعة الإسلامية ، غير أن الأحوط للمسلم أن يتطهر من
جميع النجاسات كثيرها ويسيرها ، خروجاً من الخلاف وطلباً للبراءة والسلامة ، وخصوصا
لفعل الصلاة.
قال ابن عبد البر : " الِاحْتِيَاطَ لِلصَّلَاةِ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ الْمَرْءُ
عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ ، وَبَدَنٍ طَاهِرٍ مِنَ
النَّجَاسَةِ ، وَمَوْضِعٍ طَاهِرٍ عَلَى حُدُودِهَا ، فَلْيَنْظُرِ الْمُؤْمِنُ
لِنَفْسِهِ وَيَجْتَهِدْ " انتهى من " التمهيد " (22/241).
والله أعلم