الحمد لله.
ثانيا:
لا حرج في عرض صور ومقاطع الناس المنكوبين والقتلى والجرحى منهم ، مع مراعاة
الضوابط الشرعية في هذا الباب ، ومنها :
1. عدم نشر صور النساء مطلقاً .
فالمرأة عورة ، ولا حاجة لعَرض صورة امرأة جريحة ، أو قتيلة ، أو جائعة ، وصور
الرجال والأطفال تسد مسدَّها .
2. وجوب طمس العورات .
فكثير من الصور لا يراعي ناشروها حكم الله عند تصويرها ، والواجب مراعاة ذلك عند
عرضها من قبَل أهل الاستقامة ؛ لأن عورة المسلم واجب عليه سترها ، وحيث كان هو
جريحاً ، أو قتيلاً ولا يستطيع ذلك : فهو معذور ، وليس هناك عذر لمن نشر تلك الصورة
.
3. عدم نشر الانتهاكات
الجنسية والاغتصاب .
سواء للرجال ، أو النساء ؛ فإن هذا من فضح ما يجب ستره ، وقد انتشرت في مواقع
الإنترنت صور لأناس أبرياء ، انتُهك عرضهم من قبَل من لا يخاف الله من الطغاة
والمجرمين ، ومثل هذه الأمور لا يجوز مشاهدتها ؛ لعموم قوله تعالى : ( قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) النور/30-31
4. عدم نشر صور الأشلاء ،
والرؤوس المقطوعة .
حفاظاً على حرمة المسلم ؛ ولما قد تورثه هذه المشاهد والصور من يأس وقنوط وجزع في
نفوس بعض الناس.
ويستفاد ذلك مما جاء عن النبي في غزوة أحد عندما مُثِّل بحمزة رضي الله عنه ، فمنع
النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب من رؤيته.
فعَنْ عُرْوَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ تَسْعَى حَتَّى إِذَا
كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى.
قَالَ : فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرَاهُمْ،
فَقَالَ: (الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ).
قَالَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي
صَفِيَّةُ ، فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ
إِلَى الْقَتْلَى. رواه أحمد (1418) وصححه الألباني.
ولذلك فمن المهم التنبيه قبل فتح المقطع أن لا يراه من يتضرر برؤيته كالصغار
والنساء .
5. أن لا يصاحبها شيء من المعازف أو الغناء المحرم . وينظر جواب السؤال رقم : (5000).
6. عدم المبالغة في إظهار قوة العدو بحيث يصل إلى بث اليأس في نفوس المسلمين ، وتقرير الضعف فيهم ، وعجزهم عن مواجهة عدوهم .
7. تحري المصداقية في النقل
.
فالبعض في سبيل نصرة المستضعفين ينشر صورا مفبركةً ليستدر عطف الناس، وهذا من الكذب
والتدليس المحرم .
8. تجنيب المساجد تلك الصور
.
وقد أصبحت كثير من المساجد معارض لعرض الصور ، وهذا لا يليق أن يُفعل في بيوت الله
تعالى ، ولا مانع من عرضها في أماكن عامة ، أو مؤسسات خيرية، أو جمعيات دعوية .
9. إذا كانت الصورة لمقتول أو من تم التمثيل بجثته فينبغي عدم إظهار وجهه حتى لا يتعرف الناس عليه ، مراعاةً لحرمته .
ثالثاً :
المصالح المتحققة في نشر صور ومقاطع التعذيب :
لا شك أن الإعلام الآن سلاح يُقاتَل به ، ويدافع به ، ولا جدال في هذا ، ونحن نعيش
في عالم الغاب ، القوي يأكل الضعيف ، والعاجز الخانع لا قيمة له في هذا العالَم .
وها هي بلاد المسلمين تُقصف بالطائرات جوّاً ، والمدافع برّاً ، والبارجات بحراً ،
وأنَّى للمسلمين في أقطار الأرض أن يعلموا حقيقة ما يجري في تلك الأرض لولا ما
يُنقل لهم من صور تعبِّر عن واقعهم ؟
وأنَّى للمسلمين أن يهبُّوا لنجدة إخوانهم وهم لا يعرفون مدى السوء الذي وصلوا إليه
؟!
ويمكن إجمال المصالح المتحققة في استعمال سلاح الصورة بما يلي :
1. التأثير على الرأي العام
للوقوف مع المسلمين المستضعفين ، وإيقاف الحرب أو التعذيب والانتهاكات .
ويكون ذلك بنشر صور ضحايا المسلمين ، حتى يعرف العالَم مدى الدمار والسوء الذي لحِق
بالبلاد المحتلة وبأهلها ، ويحصل الضغط على المعتدين القتلة لإيقاف عدوانهم.
وكذلك نشر صور قتلى المعتدين تساهم في إثارة الرأي العام في بلدانهم .
ولذا فإن نشر صور القتلى والجرحى يحقق مصالح عظيمة ، ومن أبرزها إيقاف نزيف الدم
الهادر من أبناء المسلمين ، وإيقاف الدمار في بلادهم ، وهذه المصلحة قد يترخص في
فعل بعض المحرمات أو ترك بعض الواجبات من أجل تحقيقها ، فكيف إذا كان ذلك بنشر صورة
مختلف في تحريمها أصلاً ؟! .
2. تثبيت الجريمة على فاعلها
.
ويستفاد من ذلك : تصحيح الصورة في العالَم .
فاليهود الأخباث الآن ، ومعهم وسائل إعلام غربية عالمية كثيرة تنقل صور مآسي اليهود
جرّاء إطلاق المجاهدين عليهم بعض الصواريخ بدائية الصنع ، فيستعطفونهم ، ويبتزونهم
، ويوهمون العالَم أنهم شعب مظلوم مقهور ! ولا يمكن تصحيح هذا الخلل إلا بسلاح
الإعلام الذي يبين الحقيقة من غير رتوش ، ولا دجل .
ويستفاد منه أيضاً : محاكمة ومعاقبة الفاعلين إن تيسر ذلك .
كما حصل في محاكمة طغاة " الصرب " بنشر صور جثث القتلى من المسلمين ، وإيقاف
العالَم على الكم الهائل الذي راح ضحية مذابحهم ، وقد كان للصور أبلغ الأثر في
تثبيت التهمة على أولئك الطغاة وغيرهم ممن يمكن أن يأتي دورهم .
وعلماؤنا الأجلاء يجوزون نشر صور المتهمين في قضايا سرقة واعتداء ، وما نحن فيه
الآن أبلغ بكثير ، حيث يكون أولئك قتلة لألوف المسلمين .
3. الرد على إعلام العدو
النافي لوقوع ضحايا ، وكشف زيف ادعائه للحرية والإنسانية .
وفي عدد من الأحوال والأوضاع كان لنشر صور الضحايا أثر كبير في فضح أرباب الأديان
والطوائف الضالة وأن عقائدهم تدفعهم للعدوان.
فكم تحصَّل من مصالح في هذا النشر ، من مراقبة السجون ، وطرد الضباط والمسئولين عن
التعذيب من وظائفهم ، وإحكام الرقابة على المعتقلات ، وتحسين أوضاع المساجين ، وغير
ذلك من مصالح ، لا يشك الواقف عليها أن الشريعة تتشوَّف لها ، وتدعو إليها ، ولو
ارتكب في ذلك ما فيه مفسدة ، فكيف إذا كان ذلك في قضية مختلف فيها أصلاً ؟! .
4. جمع الصدقات ، والتبرعات
، وكفالة الأيتام ، ورعاية الأرامل .
فللصورة أبلغ الأثر في حث الناس على إعانة إخوانهم المستضعفين ، فرؤية الأطفال
الجوعى ، والذين التصق بطنهم بظهرهم ، يغني عن مئات المحاضرات النظرية في جلب
المساعدات والإعانات له ولأهله ، وكذا تصوير الجرحى لاستقبالهم في المستشفيات
وعلاجهم فيها ، وهكذا في مصالح عظيمة يمكن تحقيقها إن أحسنَّا استعمال هذا السلاح ،
وكما قدَّمنا فإن تأثير الصورة يبقى في ذهن رائيها أضعاف تأثير المسموع والمقروء .
5. التهييج على الجهاد ،
والانتقام لدماء المسلمين .
ولا ينكر أحد التأثير البالغ الذي أحدثته صور أطفال غزة ضحايا بين الأنقاض ، وقتلى
بنيران العدو ، ولا ينسى أحد صورة الطفل الفلسطيني " محمد الدرة " عندما اخترق جسمه
الصغير النحيل رصاصات العدو الصهيوني ، وهو في حضن والده .
ومن شأن مثل هذه المشاهد أن تحرِّك الدماء في عروق المجاهدين ، وتدفعهم للمشاركة مع
إخوانهم المجاهدين أينما كانوا ، ولا يُنكر أحد أن الناس قد تثاقلوا عن الخروج
للجهاد ، ونصرة إخوانهم ، وأن متاع الدنيا قد صار أضعاف متاع السابقين ، وهذا ما
جعلهم يركنون إلى الراحة والدعة ، ويطلبون السلامة لأنفسهم ، فتأتي مثل هذه المشاهد
لتزهدهم في حياتهم الدنيوية ، ولتحرك دماءهم ليقوموا غضبة لدينهم .
رابعا:
هذا ، ولا ننكر أن هناك مفاسد حتى من نشر ما هو جائز – بشروطه وضوابطه – من الصور ،
وهو ما يستدعي من القائمين على الإعلام الإسلامي أن يتصفوا بالحكمة والعقل في
التعامل معها ، ومن هذه المفاسد :
1. تبلد الإحساس بكثرة العرض لصور القتلى والجرحى .
ولذا فلا عجب أن ترى الأسرة تأكل ، وتشرب ، وهم يرون مناظر الحرب ، وصورها المفزعة
.
وعلاج ذلك : الإحسان في كمية وكيفية عرض الصور على الناس ، فيختار الوقت المناسب ،
والقدْر المناسب لعرضه على الناس .
2. توقف التأثر عند عدم وجود شيء في الصور .
وهذا ما يحصل عند طائفة من الناس ، وهو أن الكلمة لا يكون لها تأثير عليه حتى يرى
الصورة المعبِّرة .
وعلاج ذلك : بأن يحسن المتكلم – بدون صورة – توصيف الحدث ، حتى يجعل السامع كأنه
يرى الحدث بعينه .
ولذلك أصل في الشريعة : عن ابنِ عُمَرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ ، فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا
السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) ، رواه الترمذي ( 3333 )
وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
3. التسبب بالضرر العظيم على
المسلمين وخاصة المدنيين .
وهذا مثل ما حصل في صور التمثيل بالمقاولين الأمريكيين الأربعة في الفلوجة ، مما
تسبب بحصار جائر ، وعذاب شديد .
والحكمة تقتضي حسن اختيار ما يُنشر مما فيه نفع للمسلمين ، ودفع للضرر والأذى عنهم
، وهذا يحتاج لأهل علم وعقل ، وهم يجتهدون في ذلك بما لا يرجع بالضرر على المسلمين
.
وقد يوجد غير ذلك من المفاسد ، لكنه قليل في جنب ما ذكرناه من مصالح عظيمة .
والله أعلم .