الحمد لله.
ولو وقف أحد المسلمين عند الكعبة المشرفة فولى أحد أركانها ظهره ، وصلى ، فإن
صلاته باطلة باتفاق علماء الإسلام ، لأنه استدبر القبلة قطعا ، ولم يستقبلها ، لأن
الاستقبال والاستدبار بني على أساس جهات الأرض الذاتية .
ولو قيل بتعريف الاستقبال والاستدبار الوارد في السؤال، وأنه بحسب طريق الوصول إلى
الكعبة ، بغض النظر عن اتجاهات الأرض ، لصحت صلاة هذا المصلي مستدبرا الكعبة ، وهذا
ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام ، رغم اتفاقهم قديما وحديثا على كروية الأرض ،
ورغم دلالة الأدلة الشرعية الصريحة أيضا على كروية الأرض .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة ، قال الله تعالى : (
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون )، وقال تعالى : ( لا
الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ). قال ابن
عباس : في فلكة مثل فلكة المغزل .
وهكذا هو في لسان العرب الفلك : الشيء المستدير . قال تعالى : ( يكور الليل على
النهار ويكور النهار على الليل ) والتكوير هو التدوير .
وأما إجماع العلماء : فقال إياس بن معاوية - الإمام المشهور قاضي البصرة من
التابعين -: السماء على الأرض مثل القبة .
وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي - من أعيان العلماء المشهورين
بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب
أحمد -: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة ، وأنها تدور بجميع ما فيها
من الكواكب ، كدورة الكرة ، على قطبين ثابتين غير متحركين : أحدهما في ناحية الشمال
والآخر في ناحية الجنوب.
قال : وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة .
قال : ويدل عليه : أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في
نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب .
قال : فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء ، كالنقطة في الدائرة .
وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة ، وأن الله
على عرشه ، مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة ، متناقض ، أو مقتض أن يكون الله
تحت بعض خلقه ، كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله فوق العرش باستدارة
الأفلاك ، وأن ذلك مستلزم كون الرب أسفل .
وهذا من غلطهم في تصور الأمر .
ومن علم أن الأفلاك مستديرة ، وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين ، وأن المركز
الذي هو باطن ذلك وجوفه وهو قعر الأرض هو " سجين " " وأسفل سافلين "، علم من مقابلة
الله بين أعلى عليين ، وبين سجين ... أن السماء فوق الأرض مطلقا ، لا يتصور أن تكون
تحتها قط ، وإن كانت مستديرة محيطة.
وعلم أن الجهة قسمان : قسم ذاتي . وهو العلو والسفول فقط .
وقسم إضافي : وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته ، فما أمامه يقال له : أمام ، وما
خلفه يقال له خلف ، وما عن يمينه يقال له اليمين ، وما عن يسرته يقال له اليسار ،
وما فوق رأسه يقال له فوق ، وما تحت قدميه يقال له تحت ، وذلك أمر إضافي .
أرأيت لو أن رجلا علق رجليه إلى السماء ورأسه إلى الأرض أليست السماء فوقه ، وإن
قابلها برجليه ، وكذلك النملة أو غيرها لو مشى تحت السقف مقابلا له برجليه وظهره
إلى الأرض لكان العلو محاذيا لرجليه وإن كان فوقه ، وأسفل سافلين ينتهي إلى جوف
الأرض . والكواكب التي في السماء وإن كان بعضها محاذيا لرؤوسنا ، وبعضها في النصف
الآخر من الفلك ، فليس شيء منها تحت شيء ، بل كلها فوقنا في السماء ، ولما كان
الإنسان إذا تصور هذا يسبق إلى وهمه السفل الإضافي كما احتج به الجهمي الذي أنكر
علو الله على عرشه ، وخيل على من لا يدري أن من قال : إن الله فوق العرش فقد جعله
تحت نصف المخلوقات ، أو جعله فلكا آخر ، تعالى الله عما يقول الجاهل" انتهى باختصار
من " مجموع الفتاوى " (25/193-197) .
والشاهد هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية تقريره أمرين مهمين :
الأول : استدارة الأفلاك ، واتفاق العلماء على ذلك من قديم الزمان .
الثاني : إثبات أن الجهة الذاتية للأرض هي الجهة التي يرد عليها الخطاب الشرعي في
تقرير صفة العلو لله سبحانه وتعالى ، وليست الجهة الإضافية لكل مخلوق على حدة .
وهذا هو المبدأ ذاته الذي ينبغي أن يعتمد في اتجاه القبلة ، فالواقع في شمال الكرة
الأرضية لا بد أن يتجه جنوبا ؛ لأن القبلة ( الذاتية ) للأرض هي الجنوب لمن هو في
الشمال الأرضي .
وبهذا يتبين أن جهة القبلة هي جهة واحدة وهي الجهة الذاتية للأرض .
والله أعلم .