الحمد لله.
فإذا كان من عدل الله تعالى ورحمته ألا يعذب من لم تبلغه دعوة الإسلام ، فإنه كذلك قضى ألا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ) رواه البخار ( 3062 ) ، ومسلم ( 111 ) .
فعلى هذا ، فما هو منزل الكافر يوم القيامة ، إذا لم تكن الدعوة قد بلغته ؟
والجواب : أن السّنة قد بينت حال هؤلاء ، وأن الله تعالى يمتحنهم يوم القيامة فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار .
عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا ، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ : رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا ، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ : رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ : رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا ، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ : رَبِّ ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ . فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا ) رواه أحمد في " المسند " ( 26 / 228 ) .
ورواه أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، مِثْلَ هَذَا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ : ( فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا ) . " المسند " ( 26 / 230 ) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " أحاديث هذا الباب قد تضافرت وكثرت ، بحيث يشد بعضها بعضا ، وقد صحح الحفاظ بعضها ، كما صحح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديث الأسود بن سريع .
وحديث أبي هريرة إسناده صحيح متصل " انتهى . " أحكام أهل الذمة " ( 2 / 1149 ) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن .
وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها " انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 5 / 58 ) .
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ، ومن مات في الفترة ، من طرق صحيحة " انتهى من " فتح الباري " ( 3 / 246 ) .
وصححه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ( 3 / 418 – 419 ) .
وهذا القول رجحه كثير من العلماء المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية " الجواب الصحيح " ( 2 / 298 ) ، وابن القيم " أحكام أهل الذمة " ( 2 / 1137 ) ، وابن كثير " تفسير ابن كثير " ( 5 / 58 ) ، وغيرهم .
وهذا الحكم إنما هو من حيث العموم ، من غير أن نقطع لشخص بعينه أنه معذور ، أو أنه يختبر يوم القيامة ، أو لا .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق .
وأما كون زيد بعينه ، وعمرو بعينه ، قامت عليه الحجة أم لا ؟ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه ؛ بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر ، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول . هذا في الجملة ، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه " انتهى من " طريق الهجرتين "( 2 / 900 ) .
وأما المسلم الذي يعتقد الإسلام ، ويلتزمه ظاهرا وباطنا ، لكنه يضل في بعض مسائله بسبب الجهل ، وعدم وجود من يبصره بالحق ، وليس له قدرة على العلم ببطلان ما هو عليه من الخطأ ، فهذا مسلم ، بأصل إسلامه ، ولا يخرج عن الإسلام إلا بيقين ، يدل على انقطاع حجته ، وزوال عذره فيما علمه .
وهو معذور في الدنيا ، كما هو معذور في الآخرة ؛ لأن الله لا يعذب إلا من بلغه الحق ثم أعرض عنه .
راجع الفتوى رقم : ( 111362 )، والفتوى رقم : ( 104412 ) لتفصيل هذه النقطة .
والله أعلم .