الحمد لله.
ولكن إذا وجد جماعة من الناس
في مكان ما لتنظيم حفل ، أو في استراحة ، أو اجتماع ، أو مؤتمر أو نحو ذلك من
اللقاءات ، وحضر وقت الصلاة ، فهل يلزمهم ترك ما هم فيه والذهاب للصلاة في المسجد ،
أو يجوز لهم الصلاة جماعة في مكانهم ؟
الحكم في هذه المسألة يتوقف على بيان أمرين :
1-هل يجب أداء صلاة الجماعة في المسجد أم يكفي فعلها في أي مكان ؟
2- وهل هذا يدخل في جنس الأعذار التي تبيح ترك الجماعة في المسجد ؟
ثانياً :
اختلف العلماء في صلاة الجماعة ، هل يجب فعلها في المسجد أم يتحقق الواجب بأدائها
في غير المسجد ؟
ومذهب جمهور العلماء – ومنهم الحنابلة القائلون بأن الجماعة فرض عين – أن أداء
الجماعة في المسجد سنة ، والواجب يتحقق بصلاتها جماعة ، ولو في غير المسجد .
قال الإمام الشافعي : " فَلَا أُرَخِّصُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
فِي تَرْكِ إتْيَانِهَا إلَّا مِنْ عُذْرٍ ... وَكُلُّ جَمَاعَةٍ صَلَّى فِيهَا
رَجُلٌ : فِي بَيْتِهِ ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ صَغِيرٍ ، أَوْ كَبِيرٍ، قَلِيلِ
الْجَمَاعَةِ أَوْ كَثِيرِهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُ " انتهى من " الأم" (1/180).
وقال ابن قدامة في " المغني " : " وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ
وَالصَّحْرَاءِ .
وَقِيلَ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى : إنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ ، إذَا كَانَ
قَرِيبًا مِنْهُ " .
انتهى من "المغني" (3/8) .
وقال ابن مفلح : " وَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ : سُنَّةٌ " انتهى من "الفروع"
(2/421) .
وذهب بعض العلماء إلى وجوب
فعلها في المسجد ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، ومذهب الظاهرية ، واختارها جمع من
المحققين . ينظر: " المحلى" (4/188) ، "الإنصاف" للمرداوي (2/213).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " من صلى في بيته جماعة : فهل يسقط عنه حضور المسجد؟
فيه نزاع ، وينبغي أن لا يترك حضور المسجد إلا لعذر" .
انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" صـ 52.
وقال ابن دقيق العيد : " وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ
إقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ: هَلْ يَتَأَدَّى بِهَا
الْمَطْلُوبُ ؟
فَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْبُيُوتِ فِي
إقَامَةِ الْفَرْضِ ، أَعْنِي إذَا قُلْنَا: إنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَرْضٌ
عَلَى الْكِفَايَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفِي إذَا اشْتَهَرَ، كَمَا إذَا صَلَّى صَلَاةَ
الْجَمَاعَةِ فِي السُّوقِ مَثَلًا.
وَالْأَوَّلُ عِنْدِي: أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَشْرُوعِيَّةِ إنَّمَا كَانَ
فِي جَمَاعَةِ الْمَسَاجِدِ ، هَذَا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ لَا يَتَأَتَّى إلْغَاؤُهُ "
انتهى من "إحكام الأحكام" (1/ 191) .
ورجح ابن القيم هذا القول فقال: "ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في
المساجد فرض على الأعيان ، إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة ، فترك حضور
المسجد لغير عذر : كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث
والآثار....
فالذي ندين الله به : أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر .
والله أعلم بالصواب" انتهى من " كتاب الصلاة" صـ 416
وينظر جواب السؤال : (72398) .
ثالثاً :
ذكر العلماء كثيراً من الأعذار التي تبيح التخلف عن صلاة الجماعة : كالمطر الشديد ،
والبرد الشديد ، والحر الشديد الذي يخرج عما ألفه الناس ، والوحل الذي يتأذى به
الإنسان ، والخوف على النفس والمال والأهل ، وحضور للطعام الذي تتوق نفسه له ،
ومدافعة الأخبثين ، ووجود رائحة كريهة تخرج منه بسبب أكل ثوم أو بصل ونحوهما ، أو
انشغاله برعاية مريض له ، أو خشية فوات الرفقة في سفر مباح ... إلخ .
ينظر جواب السؤال : (106287) ، (129681)
، (127876) .
وهذه الأعذار : منها ما يتعلق بوجود ضرر على الإنسان ، أو حفظ مصلحة له ، أو دفع للأذى عنه ، أو به ، أو انشغاله بأمر تعلقت نفسه به .
وهذه الأعذار غير محصورة بما
ذكره الفقهاء ، بل قال النووي: " باب الأعذار في ترك الجمعة والجماعة ليس مخصوصاً ،
بل كل ما يلحق به مشقة شديدة : فهو عذر ".
انتهى من "المجموع" (4/384) .
وهذه الاجتماعات واللقاءات
أنواع مختلفة : فقد يكون الذهاب للمسجد أمراً ميسوراً لا يترتب عليه أدنى حرج ،
فمثل هذا لا يرخص فيه بترك الصلاة في المسجد .
وقد يكون الذهاب للمسجد في بعض الصور والحالات مما يترتب عليه حرج ومشقة ، فيرخص
فيه بفعلها جماعة في مكان وجودهم .
وعليه يقال :
إذا تيسر الذهاب لمسجد قريب دون مشقة أو حرج : فهو الواجب المتعين .
وإن تعذر ذلك : إما لوجود مشقة في الذهاب ، أو لوجود حرج في تفرق المجتمعين ،
وانفراط عقد اجتماعهم ، أو اختلال نظام اللقاء والمؤتمر ، أو وجود مصلحة في استمرار
اللقاء دون انقطاع : فالذي يظهر : أنه يرخص لهم بالصلاة جماعة في مكانهم .
ويقوي جانب هذه الرخصة : وجود الخلاف المعتبر بين العلماء في لزوم أداء الجماعة في المسجد ، وأن الأعذار التي ذكرها العلماء في التخلف عن الجماعة تدل على أن الأمر فيه سعة عند وجود الحاجة ، وهي أعذار لمن تخلف عن صلاة الجماعة في المسجد للصلاة منفرداً ، فكيف إذا كان التخلف لفعلها في جماعة ؟ فلا شك أنه أدعى للترخيص والتخفيف ، وأن باب العذر هنا أوسع .
روى ابن أبي حاتم عن صالح
ابن الإمام أحمد قال : " حضرت عند إبراهيم بن أبي الليث ، وحضر علي ابن المديني ،
وعباس العنبري وجماعة كثيرة ، فنودي بصلاة الظهر .
فقال علي ابن المديني : نخرج إلى المسجد أو نصلي ههنا ؟
فقال أحمد : نحن جماعة نصلي ههنا ، فصلوا.
قال أبو محمد : رجوع الجماعة الذين حضروا إلى قول أحمد ، في ترك الخروج إلى المسجد
، وجمع الصلاة هناك : من جلالة أحمد ، وموقع كلامه عندهم " .
انتهى من "الجرح والتعديل" (1/ 298).
ولعل الإمام أحمد رأى في استمرار "مجلس التحديث" مصلحةً ، قد تفوت بذهابهم للمسجد .
وقريب من هذا ترخيص الشيخ
ابن عثيمين للطلاب والموظفين بأداء صلاة الجماعة في أماكنهم ، دون الذهاب للمسجد ،
لما في ذلك من المصالح .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ولكن ها هنا مسألة في وقتنا الحاضر : أحياناً تكون المساجد إلى جنب مصلحة حكومية
أو مدرسة ، وإذا خرجوا إلى المسجد : فإنه أولاً ، إن كانوا طلاباً ضيقوا المسجد ،
وربما يعبثون فيه ، وربما يتفرقون ولا يصلون ، فهل يرخص لهم في هذه الحال أن يصلوا
في المدرسة ؟
الجواب : نعم ، أولاً دفعاً لأذاهم ، وثانياً : لأجل أن لا يهرب أحد عن الجماعة ،
وثالثاً : أن هذا ليس أمراً دائماً راتباً ، إنما هو أمر عارض في صلاة واحدة .
وكذلك يقال في بعض الدوائر التي لها مساس بعامة الناس : لو أن أهل الدائرة أغلقوا
الدائرة وذهبوا ، لتعطلت أمور الناس من جهة ، ولذهب بعض هؤلاء الموظفين إلى بيوتهم
كما هو واقع ، يخرج على أنه سيصلي ثم يذهب إلى البيت .
فمثل هؤلاء أيضاً نقول : يرخص لكم في أن تصلوا مكانكم ، لما يترتب على ذلك من حفظ
الوقت وعدم ضياعه ، ولأنهم إذا كانوا لهم مساس بالجمهورِ وعامةِ الناسِ ، يعطلون
الناسَ إذا ذهبوا ، ولأنه ربما يكون هناك وثائق يصعب أن الإنسان يغلق الباب ثم يرجع
ويفتح ، وإن تركها خاف عليها من الضياع أو من السرقة".
تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (2/ 29، بترقيم الشاملة آليا) .
والأولى بالقائمين على مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات : تنظيمها بشكل لا يتعارض مع أداء الصلاة جماعة في المسجد ، بحيث يكون هناك فاصل متاح لأداء الصلاة .
والله أعلم .