الحمد لله.
ولكن لا ينكر أن يكون لبعض
القواعد الفقهية اتصالٌ مَّا بعلم العقيدة ، وخصوصا أحكام الكفر والإيمان، وبيان
ذلك فيما يلي:
من القواعد الفقهية الشهيرة قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) ، يقول ابن نجيم : "
القاعدة الثالثة: اليقين لا يزول بالشك ، ودليلها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه مرفوعا إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا
يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا "انتهى من "الأشباه والنظائر" لابن
نجيم (1 / 48).
وهذه القاعدة لها اتصال بقضايا الكفر والإيمان، لأن من ثبت إيمانه بيقين ، فلا يحق
لنا أن نخرجه عنه إلا بيقين أيضا، يقول ابن حجر الهيتمي الشافعي في "تحفة المحتاج
في شرح المنهاج" (9 / 88):
"يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَحْتَاطَ فِي التَّكْفِيرِ مَا أَمْكَنَهُ ، لِعَظِيمِ
خَطَرِهِ ، وَغَلَبَةِ عَدَمِ قَصْدِهِ ، سِيَّمَا مِنْ الْعَوَامّ وَمَا زَالَ
أَئِمَّتُنَا عَلَى ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، بِخِلَافِ أَئِمَّةِ
الْحَنَفِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا بِالْحُكْمِ بِمُكَفِّرَاتٍ كَثِيرَةٍ
مَعَ قَبُولِهَا التَّأْوِيلَ ، بَلْ مَعَ تَبَادُرِهِ مِنْهَا . ثُمَّ رَأَيْتُ
الزَّرْكَشِيَّ قَالَ عَمَّا تَوَسَّعَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ غَالِبَهُ فِي
كُتُبِ الْفَتَاوَى نَقْلًا عَنْ مَشَايِخِهِمْ ، وَكَانَ الْمُتَوَرِّعُونَ مِنْ
مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ يُنْكِرُونَ أَكْثَرَهَا وَيُخَالِفُونَهُمْ ،
وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ
بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ
خِلَافُ عَقِيدَتِهِ ؛ إذْ مِنْهَا : أَنَّ مَعَنَا أَصْلًا مُحَقَّقًا، هُوَ
الْإِيمَانُ ؛ فَلَا نَرْفَعُهُ إلَّا بِيَقِينٍ .
فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا ، وَلْيُحْذَرْ مِمَّنْ يُبَادِرُ إلَى التَّكْفِيرِ فِي
هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنَّا وَمِنْهُمْ ، فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرْ؛
لِأَنَّهُ كَفَّرَ مُسْلِمًا" انتهى.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: " لا شك أنه متى وجد
الإيمان يقيناً ، فلا يزيله إلا ما ينافيه يقيناً، فلا يزول بالشك ، ولا بالظن ،
استصحاباً للأصل السابق ، لما قارنه من اليقين ، وتقديماً له على الوصف اللاحق به ،
لنزوله عن درجته، " انتهى من "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة
أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (1 / 196).
كذلك من القواعد الفقهية المتفق عليها قادة (الأمور بمقاصدها) . يقول السبكي في
"الأشباه والنظائر" (1 / 54): " القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها، وأرشق وأحسن من
هذه العبارة: قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات".
ولا شك أن لهذه القاعدة تطبيقات تختص بأمور الكفر والإيمان ، ولذا فإن من تلفظ بكلمة الكفر خطأ أو إكراها : لا يحكم بكفره ، لأنه لا يقصد الكفر، قال تعالى : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )الأحزاب/ 5، وقال تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل/ 106.
كذلك فإن من القواعد الفقهية قاعدة ( المشقة تجلب التيسير) أو ( الضرورات تبيح المحظورات) وهذه أيضا لها اتصال بمسائل الكفر والإيمان، فإن من تلفظ بكلمة الكفر اضطرارا لا يحكم بكفره لقوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل/ 106.
والله أعلم.