الحمد لله.
غير أن العلماء اختلفوا في رجوع المرأة فيما وهبته لزوجها :
فذهب بعضهم إلى تحريم رجوعها ، عملا بالنصوص العامة الدالة على تحريم رجوع الواهب
في هبته .
وذهب آخرون إلى جواز رجوعها .
وهذا القول الثاني هو أحد أقوال الإمام أحمد في هذه المسألة ، وكان يحكم به القاضي
شريح ، أحد أشهر قضاة الإسلام ، ونقله الإمام الزهري المتوفي سنة (125هـ) عن قضاة
عصره .
روى عبد الرزاق أيضا (16532) عن عمر بن الخطاب (أن النساء يعطين رغبة ورهبة ،
فأيما امرأة أعطت زوجها ، فشاءت أن ترجع : رجعت) .
لكن قال الحافظ ابن حجر في الفتح : إسناده منقطع .
وروى عبد الرزاق أيضا (16559) عن الزهري قال : ما رأيت القضاة إلا يقيلون المرأة ،
فيما وهبت لزوجها ، ولا يقيلون الزوج فيما وهب لامرأته.
وروى عبد الرزاق (16558) عن شريح أنه كان يقول في المرأة تعطي زوجها ، والزوج يعطي
امرأته ؟
قال : (أقيلها ولا أقيله) .
أي : أقبل رجوعها ، ولا أقبل رجوعه .
وتوسط آخرون : فأجازوا لها الرجوع إذا لم تكن تقصد مجرد الهبة ، بل قصدت أن يحسن
عشرتها ، أو أن لا يؤذيها ، أو لا يطلقها - إن كان يؤذيها أو يفكر في طلاقها ؛ لأن
الهبة في هذه الحالة : تشبه الهبة المشروطة بشرط ، فإذا لم يحصل لها مقصودها ، فلها
الرجوع في الهبة.
قال ابن قدامة رحمه الله : "فَأَمَّا هِبَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، فَعَنْ
أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَا رُجُوعَ لَهَا فِيهَا ...وَالثَّانِيَةُ ، لَهَا الرُّجُوعُ...وَهَذَا
قَوْلُ شُرَيْحٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ الْقُضَاةِ" انتهى
من "المغني" (8/279) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وقد نص [يعني :الإمام أحمد] على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها ، أو مسكنها :
فلها أن ترجع، بناءً على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها ، أو يسيء عشرتها ،
فجعل خوف الطلاق ، أو سوء العشرة : إكراها في الهبة ، ولفظه في موضع آخر : لأنه
أكرهها" انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5/489) .
قال المرداوي في "الإنصاف" (11/137) :
"الصَّوَابُ عَدَمُ الرُّجُوعِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لها منه ضَرَرٌ ، مِنْ طَلَاقٍ
وَغَيْرِهِ ، وَإِلَّا فَلَهَا الرُّجُوعُ" انتهى.
وانظر : تصحيح الفروع (7/416) .
ثانيا :
إذا ساءت العشرة بين الزوجين ، حتى طلبت المرأة الطلاق ، أو طلقها زوجها بدون طلب
منها : فإن لم يكن رد الهبة في هذه الحالة واجبا على الزوج ، فلا أقل من أن يكون من
مكارم الأخلاق ، ومن تمام المروءة .
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
إذا اشترى الرجل لامرأته ذهبا أو فضة ، واحتاج إليه ، وأعطته زوجته الذي اشتراه لها
، هل عليه أن يرجع إليها في ذلك ما أخذه منها ؟
فأجاب : إذا أعطته ذهبها وحليها ، فضلا منها ، عطية ، فالله جل وعلا يقول : (
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) ؛
إذا طابت بها نفسها فلا حرج .
أما إن أعطته إياه قرضا ؛ ليقضي حاجته ، ثم يرد ذلك عليها ، فيجب عليه أن يرده ،
إذا أيسر ، يجب عليه رد ما أخذه منها .
وإن رد عليها ذلك ، حتى ولو ما قالت ذلك ، عن طيب نفس ، هو أحسن لما أحسنت ، فإنها
ينبغي أن تكافأ بالمعروف ، حتى ولو كانت أعطته إياه ليس قرضا ، ولكن من باب الإعانة
، إذا أيسر ورد عليها ما أخذ ، يكون أفضل ومن مكارم الأخلاق ، ومن المكافأة الحسنة
، لكن لا يلزمه إذا كان عطية منها ، عن طيب نفس ، لا يلزمه أن يرده .
أما إذا كانت استحيت منه ، وخافت من شره بأن يطلقها ، وأعطته إياه لهذا ، فالأولى
أنه يرده عليها إذا أيسر ، ولو ما قالت شيئا ، ينبغي له أن يرده ؛ لأنها أعطته إياه
، تخاف من كيده وشره ، أو تخاف أن يطلقها ، هذا يقع من النساء كثيرا ، فينبغي للزوج
أن يكون عنده مكارم أخلاق ، وإذا أيسر يعيد إليها ما أخذ منها " انتهى من "فتاوى
الشيخ ابن باز" (21/226) .