الحمد لله.
وسيأتي عن النووي رحمه الله أن من المسائل ما هو مجمع عليه ، لكن لا يعلمه إلا الخاصة، ككون القاتل عمدا لا يرث، فهذا لا يعتبر من المسائل الظاهرة ؛ فضلا عن أن يكون من المعلوم بالضرورة .
فالحاصل أن المسائل أنواع:
1-المسائل المعلومة بالضرورة، وهي المسائل المجمع عليها التي يعلمها العامة والخاصة،
ولا تقبل التشكيك، وهذه لا تكون إلا ظاهرة.
2-وهناك مسائل ظاهرة مجمع عليها، لكنها تقبل التشكيك، فلم تنته إلى كونها ضرورية في
الدين. وهذه والتي قبلها يكفر منكرها.
3-وهناك مسائل مجمع عليها، وليست ظاهرة، ولا معلومة بالضرورة، أو ليست متواترة،
وهذه لا يكفر منكرها.
وقد نبه على هذا غير واحد.
قال النووي رحمه الله: " أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس
هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعاً عليه ، فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي
يشترك في معرفتها الخواص والعوام ، كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر أو
الزنا ونحو ذلك فهو كافر.
ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص ، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب،
وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة فليس بكافر؛ للعذر، بل
يعرف الصواب ليعتقده.
ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه : فَفِي الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِ خِلَافٌ
يَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بَيَانُهُ فِي بَابِ الرِّدَّةِ " انتهى
من "روضة الطالبين" (2/ 146).
وقال ابن دقيق العيد رحمه
الله: " فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع ، كوجوب الصلاة مثلاً،
وتارة لا يصحبها التواتر .
فالقسم الأول : يكفر جاحده لمخالفته التواتر، لا لمخالفته الإجماع .
والقسم الثاني لا يكفر به" انتهى من "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (4/84).
وقال القرافي رحمه الله: "
ولا يعتقد أن جاحد ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه
مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً، فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه
إلا خواص الفقهاء، فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً" .
انتهى من " الفروق " (4/ 259).
ثالثا:
ينبغي أن يعلم أن المعلوم بالضرورة- وأحرى المسائل الظاهرة فقط- يختلف باختلاف
الأزمنة والأمكنة وأحوال الناس، فما يكون معلوما بالضرورة في زمان أو مكان ولكثير
من الناس، قد لا يكون معلوما بالضرورة في زمان أو مكان أو لبعض الناس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي ، فحديث
العهد بالإسلام ، ومن نشأ ببادية بعيدة : قد لا يعلم هذا بالكلية ، فضلا عن كونه
يعلمه بالضرورة . وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد
للسهو ، وقضى بالدية على العاقلة ، وقضى أن الولد للفراش ، وغير ذلك مما يعلمه
الخاصة بالضرورة ، وأكثر الناس لا يعلمه ألبتة" انتهى من " مجموع الفتاوى "
(13/118).
وقال رحمه الله: " وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَنْشَأُ فِي الْأَمْكِنَةِ
وَالْأَزْمِنَةِ الَّذِي يَنْدَرِسُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّاتِ ،
حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُبَلِّغُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ، فَلَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَبْعَثُ اللَّهُ بِهِ
رَسُولَهُ ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُهُ ذَلِكَ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا
يَكْفُرُ .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ
عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ، وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ ،
فَأَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ :
فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : ( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَعْرِفُونَ
فِيهِ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا صَوْمًا وَلَا حَجًّا إلَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ
وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ يَقُولُ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا.
فَقَالَ: وَلَا صَوْمَ يُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ" .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (11/407).
وقد قال مثل هذا في الشرك والاستغاثة بغير الله، ولا شك أن تحريمها من أظهر الأمور
المعلومة بالضرورة.
قال رحمه الله : " علم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات ، لا
الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم ، لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها ، ولا بلفظ
الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ، ولا لغير ميت، ونحو ذلك،
بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله .
لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين : لم يمكن تكفيرهم
بذلك ، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما يخالفه.
ولهذا ما بينت هذه المسألة قط ، لمن يعرف أصل الإسلام ، إلا تفطن وقال: هذا أصل دين
الإسلام " انتهى من "الرد على البكري" (2/ 731).
وسئل رحمه الله: " ما تقول
السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قومٍ يُعظِّمون المشايخ، بكون
أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرَّعون إليهم، ويزورون قبورَهم ويُقبِّلونها
ويتبرَّكون بترابها، ويُوقِدون المصابيح طولَ الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون
عليها من البعد يسمونها ليلةَ المَحْيَا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها
النذور، ويُصلُّون عندها".
فأجاب: " الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ
في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج، فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان!
أنا في حسبك وجِوارِك؟ أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان! يَستوحِيْه
ويَستغيثُ به؟ أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه-: فإن هذا ضالٌّ
جاهلٌ ، مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا
يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك".
إلى أن قال: " وهذا الشركُ : إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ولم يَنتهِ، وَجَبَ
قتلُه ، كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ
عليه.
وإمَّا إذا كان جاهلاً لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ
عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين، فإنه لا يُحكَم
بكُفْرِه، ولاسِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام.
ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً ، فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ
الحجة كافر.
والواجبُ على المسلمين عمومًا ، وعلى وُلاةِ الأمور خصوصًا : النهيُ عن هذه الأمور،
والزَّجْرُ عنها بكلِّ طريق، وعقوبةُ مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبةَ الشرعيةَ، والله
أعلم" .
انتهى من " جامع الرسائل لابن تيمية "، جمع عزير شمس (3/ 145- 151).
فسواء قيل إن مسائل الشرك من المسائل الظاهرة ، أو من المعلومة بالضرورة، فإن شيخ
الإسلام يعذر فيهما الجاهل الذي لم يبلغه العلم، خلافا لما ظنه من ينسب له التفريق
في العذر بين المسائل الظاهرة والخافية .
ولأجل ذلك ، نعود فننبه إلى
وجوب إقامة الحجة الرسالية ، على الشخص المعين ، قبل الحكم بكفره وردته ، وترتيب ما
ينبني على ذلك من الآثار .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فتجب إقامة الحجة قبل التكفير، وذلك في كل المسائل التي يمكن أن يجهلها الناس،
فلا نقسم المسائل إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية؛ لأن الظهور والخفاء أمر نسبي، قد
تكون المسألة ظاهرة عندي وخفية عند غيري، فلابد إذاً من إقامة الحجة وعدم التسرع في
التكفير؛ لأن إخراج رجل من ملة الإسلام ليس بالأمر الهين، وهناك موانع تمنع من
تكفير الشخص وإن قال أو فعل ما هو كفر" انتهى من "لقاءات الباب المفتوح" (48/16) .
وينظر جواب السؤال رقم : (220526) ، ورقم
: (215338) ، ورقم : (85102).
والله أعلم.