الحمد لله.
ولكن روى البيهقي في "الشعب"
(117) بسند صحيح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ موقوفا عليه ـ قَالَ: " "تَفَكُّرُ
سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ ".
ورواه ابن المبارك في "الزهد" (949) من طريق آخر عنه ، وقال ابن صاعد : " غريب
الإسناد : صحيح " .
ورواه أبو نعيم (6/271) عن الحسن البصري ، وإسناده صحيح .
ورواه أبو الشيخ في " العظمة " (42) عن ابن عباس بسند ضعيف .
وروى أيضا (48) عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّ
تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ دَهْرٍ مِنَ الدَّهْرِ" .
والمقصود : أن التدبر
والتفكر يورثان العبد أنواعا من العبودية لله تعالى ، ومنافع جمة في أمر دينه ، قد
تفوق بعض العبادات الظاهرة ، وذلك أن التفكر من العبادات القلبية ، والعبادات
القلبية أصل عبادات الجوارح ، وباعثها .
والتفكر يكون في كل شيء يدعو العبد التفكر فيه إلى زيادة الإيمان والطاعة ، فيتدبر
في آيات الله الشرعية في القرآن وأحكام الشريعة ، فيتعرف على عظمة الخالق وحكمته
وأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى .
قال تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء/ 82 .
وقال عز وجل : ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ
آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون/ 68 ، وقال عز وجل : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ )
سورة ص/ 29 .
ومعنى تدبر آيات الله : " التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه،
ولوازم ذلك ؛ فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير ،
وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب ، وترسخ شجرته ، فإنه يعرِّف
بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال ؛ وما ينزه عنه من سمات النقص ، ويعرِّف
الطريق الموصلة إليه ، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه ، ويعرِّف العدو الذي
هو العدو على الحقيقة ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود
أسباب العقاب .
وكلما ازداد العبد تأملا فيه : ازداد علما وعملا وبصيرة ، لذلك أمر الله بذلك ، وحث
عليه ، وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن .
ومن فوائد التدبر لكتاب الله : أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه
كلام الله ، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا "انتهى من "تفسير السعدي"
(ص: 189) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الْقِرَاءَةُ الْقَلِيلَةُ بِتَفَكُّرٍ : أَفْضَلُ مِنْ الْكَثِيرَةِ بِلَا
تَفَكُّرٍ ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الصَّحَابَةِ صَرِيحًا.
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، نَقَلَ عَنْهُ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ:
رَجُلٌ أَكَلَ فَشَبِعَ، وَأَكْثَرَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَرَجُلُ أَقَلَّ
الْأَكْلَ ، فَقَلَّتْ نَوَافِلُهُ ، وَكَانَ أَكْثَرَ فِكْرًا، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فَذَكَرَ مَا جَاءَ فِي الْفِكْرِ : "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ
لَيْلَةٍ" .
قَالَ: فَرَأَيْت هَذَا عِنْدَهُ أَفْضَلَ لِلْفِكْرِ " انتهى من "الفتاوى الكبرى"
(5/ 334) .
ويتدبر ـ كذلك ـ في خلق
السموات والأرض ، وفيما خلق الله فيهما من الآيات ، وما أنزل الله من السماء من ماء
فأحيا به الأرض بعد موتها .
ويتدبر في نفسه وخلقه وحاله وحال غيره من الخلائق ، وكيف لا يخرجون عن تدبير الله
تعالى وتصرفه .
وقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة/
164 .
قال السعدي رحمه الله :
" أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة، آيات أي: أدلة على وحدانية الباري
وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ، ولكنها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي: لمن
لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل ، ينتفع
بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 78) .
وبالجملة ، فالفكرة المحمودة
: هي أن يخشع القلب لرب العالمين ، فيتدبر آياته الشرعية والكونية ، ويعمل بمقتضى
ذلك .
قال ابن القيم رحمه الله :
" قَالَ الْفضيل: التفكر مرْآة تريك حَسَنَاتك وسيئاتك . وَكَانَ سُفْيَان كثيرا
مَا يتَمَثَّل:
إِذا الْمَرْء كَانَت لَهُ فكرة ... فَفِي كل شَيْء لَهُ عِبْرَة
وَقَالَ الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى : (سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأرض
بِغَيْر الْحق) قَالَ: أمنعهم التفكر فِيهَا . وَقَالَ الْحسن: طول الفكرة دَلِيل
على طَرِيق الْجنَّة. وَقَالَ وهب: مَا طَالَتْ فكرة أحد قطّ إلا علم، وَمَا علم
امْرُؤ قطّ إلا عمل .
وَقَالَ عمر بن عبد العزيز: الفكرة فِي نعم الله من أفضل الْعِبَادَة . وَقَالَ بشر:
لَو فكر النَّاس فِي عَظمَة الله مَا عصوه . وَقَالَ ابْن عَبَّاس: رَكْعَتَانِ
مقتصدتان فِي تفكر ، خير من قيام لَيْلَة بِلَا قلب .
وَقَالَ أيضًا ابْن عَبَّاس : التفكر فِي الْخَيْر يَدْعُو الى الْعَمَل بِهِ .
وَهَذَا لأن الفكرة عمل الْقلب ، وَالْعِبَادَة عمل الجوارح ، وَالْقلب أشرف من
الْجَوَارِح ، فَكَانَ عمله أشرف من عمل الْجَوَارِح . وأيضا فالتفكر يُوقع صَاحبه
من الإيمان على مَالا يوقعه عَلَيْهِ الْعَمَل الْمُجَرّد ؛ فإن التفكر يُوجب لَهُ
انكشاف حقائق الأمور، وظهورها لَهُ ، وتميز مراتبها فِي الْخَيْر وَالشَّر ،
وَمَعْرِفَة مفضولها من فاضلها ، وأقبحها من قبيحها، وَمَعْرِفَة أسبابها الموصلة
إليها ، وَمَا يُقَاوم تِلْكَ الأسباب ، وَيدْفَع مُوجبهَا، والتمييز بَين مَا
يَنْبَغِي السَّعْي فِي تحصيله ، وَبَين مَا يَنْبَغِي السَّعْي فِي دفع أسبابه.
وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي عواقب الأمور ، وَتجَاوز فكره مباديها : وَضعهَا موَاضعهَا
، وَعلم مراتبها، فَإِذا ورد عَلَيْهِ وَارِد الذَّنب والشهوة ، فَتَجَاوز فكره
لذته ، وَفَرح النَّفس بِهِ ، إلى سوء عاقبته ، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الألم
والحزن الَّذِي لَا يُقَاوم تِلْكَ اللَّذَّة والفرحة ، وَمن فكر فِي ذَلِك:
فَإِنَّهُ لَا يكَاد يقدم عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إِذا ورد على قلبه وَارِد الرَّاحَة والدعة والكسل ، والتقاعد عَن مشقة
الطَّاعَات وتعبها ، حَتَّى عبر بفكره إلى مَا يترب عَلَيْهَا من اللَّذَّات
والخيرات والأفراح : اسْتَقْبلهَا بنشاط وَقُوَّة وعزيمة .
وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي مُنْتَهى مَا يستعبده من المَال والجاه والصور ، وَنظر إلى
غَايَة ذَلِك بِعَين فكره: اسْتَحى من عقله وَنَفسه أن يكون عبدا لذَلِك .
وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي آخر الأطعمة المفتخرة الَّتِي تفانت عَلَيْهَا نفوس أشباه
الأنعام وَمَا يصير أمرها إليه عِنْد خُرُوجهَا: ارْتَفَعت همته عَن صرفهَا إلى
الاعتناء بهَا؛ كَمَا جَاءَ فِي الْمسند عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:
( إِن الله جعل طَعَام ابْن آدم مثل الدُّنْيَا وَإِن قزحه [أي : تَوْبله ، أي :
وضع عليه التوابل] وملحه فَإِنَّهُ يعلم إلى مَا يصير ) أَوْ كَمَا قَالَ.
وإِذا أحضر فِي قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها، وَمَا يقْتَرن بِهِ من الآفات
وانقطاعه وزواله، ثمَّ أحضر فِي قلبه الآخرة وَنَعِيمهَا ولذته ودوامه وفضله على
نعيم الدُّنْيَا، وَجزم بِهَذَيْنِ العِلمين: أثمر لَهُ ذَلِك علما ثَالِثا، وَهُوَ
أن الآخرة وَنَعِيمهَا الْفَاضِل الدَّائِم أولى عِنْد كل عَاقل بإيثاره من العاجلة
المنقطعة المنغصة " انتهى باختصار من "مفتاح دار السعادة" (1/ 180) .
والله أعلم .