الحمد لله.
أولًا :
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد أول من تكلم بالعربية، ولم ترد بذلك
الأسانيد التي تقوم لها قائمة، وما روي في هذا الباب مدخول معلول بما يقدح في أصله
وأساسه، وهو الحديث الذي يروى بلفظ: (أول من تكلم بالعربية، ونسي لسان أبيه،
إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما)
ويروى أيضا بلفظ: (أوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسانُهُ بالعَرَبِيَّةِ المُبَيِّنةِ
إسْماعِيلُ، وهُوَ ابنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً)
يروى هذا الحديث من طريق (محمد بن سلام الجمحي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى)، عن
مسمع بن عبد الملك، عن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
رواه محمد بن سلّام الجمحي (ت232هـ) في "طبقات فحول الشعراء" (1/ 9) قال: أخبرني
مسمع بن عبد الملك، أنه سمع محمد بن علي يقول ... قال أبو عبد الله بن سلام - لا
أدري أرفعه أم لا، وأظنه قد رفعه -.
ورواه سعيد بن يحيى الأموي في كتابه "المغازي" قال: حدثني علي بن المغيرة [هو
الأثرم]، حدثنا أبو عبيدة [هو معمر بن المثنى]، حدثنا مسمع بن مالك [هكذا، ولم يقل
مسمع بن عبد الملك]، عن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم. فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار هكذا أبو جري حدثني. نقلناه عن كتاب "البداية
والنهاية" (1/221) للحافظ ابن كثير.
ورواه الشيرازي في "الألقاب" قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الميداني، أنبأنا محمد بن
أحمد بن إسحاق الماسي، ثنا محمد بن جابر، ثنا أبو يوسف يعقوب بن السكيت، قال حدثني
الأثرم، عن أبي عبيدة، حدثنا مسمع بن عبد الملك، عن محمد بن على بن الحسين، عن
آبائه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. نقلناه عن "المزهر" للسيوطي (1/31) حيث لم
يطبع كتاب الشيرازي بعد.
وهذا إسناد لا تثبت بمثله الأحاديث، ولا تحل به الرواية، بسبب ما اجتمع فيه من
جهالة الحال ، وجهالة العين، والإبهام، وبيان ذلك:
مسمع بن عبد الملك مجهول، ليس له ترجمة في كتب الرجال والحديث، وغاية ما وجدناه
ترجمة لمسمع بن مالك، وليس ابن عبد الملك، وذلك في "تاريخ دمشق" (58/155-158)، ونحن
نستبعد أن يكون هو المقصود؛ لأدلة عديدة، ومع ذلك فليس له في هذه الترجمة توثيق في
الحديث من أحد، بل فيها نقل عن ميمون أبي السمط، مولى مسمع بن مالك، أنه قال: كان
مسمع بن مالك مع الحجاج في جميع مشاهده لا يفارقه، يوم رستق آباذ، ويوم ابن الأشعث،
ويوم الزاوية، ويوم دير الجماجم. وهذه مذمة قادحة في عدالته .
ولم يبين في السند من هم آباء محمد بن علي بن الحسين، إن كان يبلغ بهم السماع من
النبي صلى الله عليه وسلم، أم في الحديث إرسال.
وتردد محمد بن سلام الجمحي في رفع الخبر ووقفه، وهو أعلى من وقفنا عليه من المصنفين
في رواية هذا الخبر، ومع ذلك وقع في الشك والتردد. وقد قال فيه أبو خيثمة رحمه
الله: "لا يكتب عن محمد بن سلام الحديث، رجل يرمى بالقدر، إنما يكتب عنه الشعر،
فأما الحديث فلا" انتهى من "تاريخ بغداد" (3/276)
وكذلك أبو عبيدة، معمر بن المثنى، لا يبلغ به التوثيق في الأحاديث المرفوعة أن يقبل
منه هذا التفرد الغريب، بل قال فيه الإمام الذهبي رحمه الله: "كان هذا المرء من
بحور العلم، ومع ذلك فلم يكن بالماهر بكتاب الله، ولا العارف بسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولا البصير بالفقه واختلاف أئمة الاجتهاد" انتهى من "سير أعلام
النبلاء" (9/447)
وأما قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (6/ 403): "وروى الزبير بن بكار
في النسب من حديث علي بإسناد حسن قال: أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة
إسماعيل" انتهى.
فلم نقف عليه في كتب الزبير بن بكار المطبوعة ، ولم يتبين لنا إن كان يقصد الحديث
مرفوعا أو موقوفا من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والغالب أنه يريد الموقوف؛
فقد سبق هذا الكلام قوله: "وقد وقع ذلك من حديث ابن عباس عند الحاكم في المستدرك
بلفظ: أول من نطق بالعربية إسماعيل". وحديث ابن عباس مروي في "المستدرك" (2/602)
موقوفا من كلامه، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك لم يصح أيضا عن
ابن عباس.
قال الحاكم رحمه الله:
أخبرنا الحسين بن الحسن بن أيوب، ثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، ثنا إبراهيم بن المنذر
الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة، عن
داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أول من نطق بالعربية
ووضع الكتاب على لفظه ومنطقه، ثم جعل كتابا واحدا مثل بسم الله الرحمن الرحيم
الموصول حتى فرق بينه ولده : إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
علق عليه الإمام الذهبي بقوله: عبد العزيز بن عمران واه.
يريد الإمام الذهبي تضعيف حديثه جدا، فقد اتفقت كلمة النقاد على ترك حديثه ونكارته،
فقال البخاري: منكر الحديث، لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن
حبان: يروي المناكير عن المشاهير. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا.
ينظر "تهذيب التهذيب" (6/351) .
والخلاصة : أن هذا الخبر ضعيف ، لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويبقى النظر في تاريخ اللغة العربية ونشأتها وأصلها مبحثا مهما يرجع فيه إلى مطولات
اللغة وتاريخ الألسن.
ثانيا :
ثبت أن قبيلة جرهم كانت تتكلم العربية قبل إسماعيل عليه السلام ، بل منهم تعلم
إسماعيل عليه السلام العربية .
روى البخاري (3364) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة إسماعيل
وهاجر عليهما السلام - قال: ( ... فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ
تُحِبُّ الإِنْسَ، فَنَزَلُوا - بعنب جرهم - وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ
فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ
الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ )
فإن صح الأثر أن إسماعيل عليه السلام أول من نطق بالعربية ، فالواجب حمله على معنى
لا يتعارض مع ذلك .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ
الْمُبِينَةِ إِسْمَاعِيلُ " .
وَأَوَّلِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ ؛ لَا
الْأَوَّلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، فَيَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ أَصْلَ
الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جُرْهُمٍ ، أَلْهَمَهُ اللَّهُ الْعَرَبِيَّةَ الْفَصِيحَةَ
الْمُبِينَةَ فَنَطَقَ بِهَا " انتهى .
فتح الباري (6/ 403)
وقال العيني رحمه الله :
" الْمَعْنى: أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ من أَوْلَاد إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل،
عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن إِبْرَاهِيم وَأَهله كلهم لم يَكُونُوا
يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فالأولية أَمر نسبي، فبالنسبة إِلَيْهِم : هُوَ
أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جرهم " انتهى .
عمدة القاري (15/ 258) .
ثالثا :
أما حديث : " أوصيكم بالأعراب خيرا؛ فإنهم أصل العرب وجند الاسلام " : فليس بحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا رواه البخاري مرفوعا ، إنما رواه البخاري في
صحيحه (3700) عن عمر رضي الله عنه قال : " أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي،
بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ ... وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ
أَصْلُ العَرَبِ، وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ " .
فهذا حديث موقوف على عمر رضي الله عنه من قوله ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه
وسلم .
والواجب على المسلم ألا يروي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأكد
من صحته ، بتصحيح أهل العلم بالحديث له ، وأن يحذر كل الحذر من هذه الأحاديث التي
تذكر في المنتديات ومواقع التواصل ، فإن كثيرا منها باطل ، لا يجوز لأحد أن ينسب
شيئا منها للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من الكذب عليه ، وهو من الكبائر .
والله أعلم.