الحمد لله.
لا يجوز للمتصدق أن يشتري صدقته؛ لما روى البخاري (2623) ، ومسلم (1620) عن عمر رضي الله عنه أنه حمل على فرس في سبيل الله فوجده عند صاحبه وقد أضاعه وكان قليل المال فأراد أن يشتريه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال: لا تشتره ، وإن أعطيته بدرهم ، فإن مثل العائد في صدقته كمثل الكلب يعود في قيئه .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (11/62):
" ثقوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله) : معناه تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق الفرس النفيس الجواد السابق.
قوله: ( فأضاعه صاحبه ) أي قصر في القيام بعلفه أو مؤنته.
قوله صلى الله عليه و سلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ) هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء، أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر، ونحو ذلك من القربات : أن يشتريه ممن دفعه هو إليه ، أو يتهبه ، أو يتملكه باختياره منه.
فأما إذا ورثه منه : فلا كراهة فيه ، وقد سبق بيانه في كتاب الزكاة .
وكذا لو انتقل إلى ثالث ، ثم اشتراه منه المتصدق : فلا كراهة.
هذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته : للتحريم، والله أعلم " انتهى.
والقول بالتحريم هو مذهب الإمام أحمد، وهو الراجح للحديث المذكور.
قال في "كشاف القناع" (2/214): " والمذهب أيضا : أنه يحرم ، ولا يصح شراؤه زكاته ولا صدقته ) ؛ لما روي عن عمر قال: حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه الذي كان عنده، وأردت أن أشتريه ، وظننت أنه يبيعه برخص ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تشتره ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه. متفق عليه .
ولأن شراءها وسيلة إلى استرجاع شيء منها ، لأنه يستحيي أن يماكسه في ثمنها ، وربما سامحه طمعا منه بمثلها ، أو خوفا منه إذا لم يبعها أن لا يعود يعطيه في المستقبل، وكل هذه مفاسد ؛ فوجب حسم المادة...
( وإن رجعت إليه ) زكاته أو صدقته ( بإرث ) : طابت له ، بلا كراهة ؛ لحديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم أتته امرأة ، فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجب أجرك وردها عليك الميراث . رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي .
( أو ) عادت إليه بـ ( هبة أو وصية أو أخذها من دينه ) : طابت له ، لأن ذلك كالإرث .
( أو ردّها ) أي الزكاة ( له الإمام ، بعد قبضه منه ، لكونه ) ـ أي المالك ـ ( من أهلها ) ، أي الزكاة جاز له أخذها ، ( كما يأتي ) في الباب ؛ لأنها عادت إليه بسبب آخر ، فهو كما لو عادت إليه بميراث" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"فإن قال قائل: هل يجوز له أن يشتري هبته من الموهوب له؟
فالجواب: لا يجوز؛ لأن الغالب أنك إذا اشتريت الهبة ، فسوف يخفض لك السعر ، ويستحي أن يماكسك، فلو وهبت له ما يساوي مائة ، ثم أردت أن تشتريه منه، فإنك لو قلت له: بثمانين، سوف يقول لك: خذها، ويخجل أن يقول: لا، إلا بمائة، وحينئذ تكون قد رجعت في بعض الهبة، لكن بطريق غير مباشر .
ولهذا لما حمل أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ على فرس له في سبيل الله، فأضاعه الذي حمله عليه، وظن عمر أنه يبيعه برخص، استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتريه فقال له: لا تشتره ولو باعكه بدرهم، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه.
أما إذا اشترى صدقته : فإنه أشنع؛ لأنه يتضمن شيئين:
الرجوع في الهبة، والرجوع فيما أخرجه لله، وما أخرجه لله لا يجوز فيه الرجوع ، حتى البلد إذا هاجر الإنسان منها لله ، لا يجوز أن يرجع ويسكن فيها؛ لأنه تركها لله ، وما ترك لله فإنه لا يرجع فيه " انتهى من "الشرح الممتع" (11/89).
وعليه : فما تصدقتم به على المسجد لا يجوز لكم شراؤه .
والحل الملائم في مثل ذلك : هو أن تشتري الواحدة منكن ، ما تصدقت به أختها من طعام وغيره، لا ما تصدقت هي به ، وهكذا ، فهذا جائز لا حرج فيه ، ويزول به المحذور من شراء الصدقة ، ويتحقق به ما ذكرتم من المقصد الصالح .
وينظر جواب السؤال رقم : (21770) .
والله أعلم .