لقد انتقبت منذ سن مبكرةٍ جدًا ، ولكن ثمة شيءٍ يحيرني ، إذ يقول علماء مشهورون : إن النقاب ليس فرضًا ، وأنه لا ينبغي ارتداؤه ، وقد قرأت مقالك الذي تدعم فيه إرتداء النقاب ، وهناك من يقول : إن النقاب ليس إلا زيًا نشأ في شبه القارة الهندية ، وهو ليس من الإسلام ، وأنا أجد صعوبة حقًا في التصرف وأنا أرتدي النقاب ، فلا أستطيع الأكل في المطاعم كما ينبغي ، ولا أستطيع الذهاب إلى حفلات الزفاف ، وحياتي الاجتماعية منقطعةً تقريبًا ، وأحيانًا وعلى نحو غير متوقع يتحرك نقابي أو حجابي من مكانه ، وأحيانًا لا أرتديه لأنه يقع ، لذا، أشعر أنه ينبغي حل هذا اللبس بخصوص النقاب .
الحمد لله.
أولا:
الواجب على المرأة ستر جميع بدنها – ما عدا الوجه والكفين- عن الرجال اتفاقا ، وأما الوجه والكفان ففي وجوب سترهما خلاف مشهور، فمن الفقهاء من يرى ذلك عورة يجب سترها، ومنهم من لا يراه عورة لكن يوجب ستره لمنع الفتنة ، ومنهم من لا يرى وجوب ستره.
والمعتمد لدينا هو القول بوجوب الستر، سواء كان بنقاب أو غيره ، وانظري: السؤال رقم : (21134) ، ورقم : (11774) ، ورقم : (2198) ، ورقم : (21134) .
ثانيا:
الواجب على المسلم عند الاختلاف أن ينظر في الأدلة، ويعمل بما ترجح لديه منها، إن كان أهلا لذلك ، فإن لم يكن أهلا للنظر والترجيح، فإنه يأخذ بفتوى من يثق به من أهل العلم ، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم : (68152) .
ثالثا:
القول بأن النقاب لا أصل له في الإسلام ، وأنه زي نشأ في القارة الهندية ، خطأ ظاهر، وستعلمين خطأه بالرجوع إلى الفتاوى السابقة التي تضمنت الأمر الشرعي بستر الوجه.
نعم ؛ كان النقاب معروفا عند العرب وعند غيرهم ، ثم جاءت الشريعة آمرة بستر الوجه ، وإدناء الجلابيب من على الرأس إلى الجيب وهو فتحة الصدر، كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الأحزاب/59 .
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه :" بَاب ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا ".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" : " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ نِسَاء الْمُهَاجِرَات , لَكِنْ فِي رِوَايَة صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة عَنْ عَائِشَة أَنَّ ذَلِكَ فِي نِسَاء الْأَنْصَار كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ . قَوْله : ( مُرُوطهنَّ ) جَمْع مِرْط وَهُوَ الْإِزَار , وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " أُزُرهنَّ " وَزَادَ : " شَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي " . قَوْله : ( فَاخْتَمَرْنَ ) أَيْ غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ ؛ وَصِفَة ذَلِكَ أَنْ تَضَع الْخِمَار عَلَى رَأْسهَا وَتَرْمِيه مِنْ الْجَانِب الْأَيْمَن عَلَى الْعَاتِق الْأَيْسَر وَهُوَ التَّقَنُّع ، قَالَ الْفَرَّاء : كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة تُسْدِل الْمَرْأَة خِمَارهَا مِنْ وَرَائِهَا وَتَكْشِف مَا قُدَّامهَا , فَأُمِرْنَ بِالِاسْتِتَارِ " انتهى .
قال الشيخ الألباني رحمه الله- وهو ممن لا يرى وجوب النقاب-: " ليعلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة ، وقد كان ذلك معهودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، كما يشير إليه صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( تفسير سورة النور ) ( ص 56 ) :
" وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ".
والنصوص متضافرة عن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يحتجبن حتى في وجوههن" وساق جملة من الأحاديث الدالة على ذلك، منها:
"عن عائشة في حديث قصة الإفك قالت : ( . . . فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت ( وفي رواية : فسترت ) وجهي عنه بجلبابي . . . ) الحديث.
عن أنس في قصة غزوة خيبر واصطفائه صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه قال :
( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ولم يعرس بها، فلما قرب البعير لرسول الله ليخرج وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه ، فأبت ، ووضعت ركبتها على فخذه ، وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه ، وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ، ثم شده من تحت رجلها ، وتحمل بها ، وجعلها بمنزلة نسائه ).
عن عائشة قالت : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه ).
عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ( كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ).
عن صفية بنت شيبة قالت : ( رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة ).
عن عبد الله بن عمر قال : ( لما اجتلى النبي صلى الله عليه وسلم صفية رأى عائشة منتقبة وسط الناس فعرفها )...
ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم ، وأن نساءه كن يفعلن ذلك ، وقد استن بهن فضليات النساء بعدهن" .
انتهى من "جلباب المرأة المسلمة" للألباني، ص104-110 .
رابعا:
ما ذكرت من صعوبة التصرف مع لبس النقاب، لا يعدو أن يكون وهما ومبالغة، فإن كثيرا من المنقبات يباشرن جميع أعمالهن مع لبس النقاب.
والأكل في المطاعم ليس ضرورة ولا حاجة ماسة ، وقد تجد المرأة أماكن مخصصة للعائلات، فيمكنها رفع النقاب حينئذ.
وأما حضور الأعراس فلا ندري أثر النقاب عليه ، فإن المنتقبة تحضر العرس ، فإذا كانت بين النساء رفعت نقابها وكانت كغيرها من كاشفات الوجه.
وكذلك ما ذكرت من كونه يتحرك ويقع، فكل هذا يمكن علاجه، بإحسان لبسه، واعتياد ذلك.
وانظري السؤال رقم : (108097) .
والنصيحة لك أن تراجعي الفتاوى السابقة، وأن تعزمي على امتثال الأمر الشرعي، وأن تحذري من اتباع الهوى والشبهات.
واعلمي أن ستر الوجه دائر بين الوجوب والاستحباب، وأما القول بأنه عادة أو أنه لا ينبغي فقول باطل لا وزن له.
وعلى فرض أنه مستحب ، أفلا يليق بالمؤمنة أن تحرص عليه ، لا سيما في هذه الأزمنة التي تفترس فيها الأعين الوجوه ، ففي النقاب حفظ حياء المرأة وصيانتها عن نظر أهل الشهوات المحرمة.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.